ثانيا : إنّ
القسم بالأمور الحسية يوحي ، وينبئ بوجود أسرار عظيمة أودعها الله تلك المخلوقات
الحسية ، والتي أقسم بها. وغني عن البيان : أنّ هذه الأسرار لا يدركها ، ولا
يستشفها إلا أولو الألباب من الناس أصحاب العقول الكبيرة حيث إنّها لم تشرح ، ولم
تفسر في القرآن الكريم. فالله تعالى عند ما أقسم بالتين ، والزيتون ، وطور سنين ،
وهذا البلد الأمين ، فهو يذكرنا بعظم الأسرار ، والحوادث ، والآثار المحيطة ،
والنازلة ببني البشر. قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة التّين
: «وقد يرجح أنّها (أي التين ، والزيتون) النوعان من الشجر. ولكن لا لفوائدهما كما
ذكروا ، بل لما يذكران به الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال
البشر. فالله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل ، فإنّه
كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين. وعند ما بدت له ، ولزوجته
سوآتهما ، طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. والزيتون : إشارة إلى عهد نوح (عليهالسلام)
وذريته. وذلك أنّه بعد أن فسد البشر ، وأهلك من أهلك منه بالطوفان ، ونجي نوح في
سفينته ، واستقرت السفينة نظر نوح إلى ما حوله ، فرأى المياه لا تزال تغطي وجه
الأرض ، فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض ، فغاب ،
ولم يأت بخبر. فأرسل طيرا آخر ، فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون ، فاستبشر ،
وسر ، وعرف أن غضب الله قد سكن ، وقد أذن للأرض أن تعمر ، ثم كان منه ومن أولاده
تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي امحى عمرانها ، فعبّر عن ذلك الزمن
بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة ، وهي من أكبر ما يذكر
من الحوادث».
وطور سنين : «إشارة
إلى عهد الشريعة الموسوية ، وظهور نور التوحيد في العالم بعد ما تدنست جوانب الأرض
بالوثنية ، وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى
أن كان آخرهم عيسى ـ عليهالسلام ـ جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال
الأمد على قومه ، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من