(وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنكم تخونون أي : وأنتم علماء مميزون الحسن من القبيح.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي : محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم ، فلا يحملنكم
حبهم على الخيانة كأبي لبابة ؛ لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيره حجابا عن خدمة
المولى.
ثم إنه تعالى
نبه بقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) على أنّ سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا ؛ لأنها
أعظم في الشرف ، وأعظم في القوّة ، وأعظم في المدّة ؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له
فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم.
قال الرازي :
ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح
؛ لأنّ الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله ، والاشتغال بالنكاح يفيد
الولد ، ويوجب الحاجة إلى المال ، وذلك فتنة ، ومعلوم أنّ ما يفضي إلى الأجر
العظيم عند الله هو خير مما يفضي إلى الفتنة ، اه. لكن محله في غير المحتاج إلى
النكاح الواجد أهبته ، وإلا فالنكاح حينئذ أفضل وأولى من التخلي للعبادة.
ولما حذر الله
تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في
محبة الأموال والأولاد بقوله :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أي : بالأمانة وغيرها (يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) أي : هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : يسترها ما دمتم على التقوى (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي : يمح ما كان منكم غير صالح عينا وأثرا ، وقيل :
السيئات الصغائر ، والذنوب الكبائر ، وقيل : المراد ما تقدّم وما تأخر ؛ لأنها في
أهل بدر ، وقد غفر الله تعالى لهم ، وقوله تعالى : (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ،
وإنه ليس مما توجبه تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمله.
ولما ذكر
سبحانه وتعالى المؤمنين بنعمه عليهم بقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ) إلى آخره ، عطف عليه قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) فذكر رسوله الله صلىاللهعليهوسلم نعمه عليه ، وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه ،
وهذه السورة مدنية ، وهذا المكر كان بمكة ، ولكن الله تعالى ذكره بالمدينة مكر
قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى عليه في نجاته من مكرهم واستيلائه
عليهم ، وكان ذلك المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسرين إنّ قريشا لما
أسلمت الأنصار وبايعوه فرقوا أن يتفاقم أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فاجتمعت رؤساؤهم كأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة ،
وأبي سفيان وهشام بن عمرو وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبي البختري بن هشام في
دار الندوة متشاورين في أمره صلىاللهعليهوسلم ، فدخل عليهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ ، فلما
رأوه قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من نجد سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن
تعدموا مني رأيا ونصحا قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوه في
بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب
المنون حتى يهلك مثل ما هلك من قبله من الشعراء ، فصرخ عدوّ الله النجدي وقال :
بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت ليأتينكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من
أيديكم قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل
وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يضركم ما صنع واسترحتم ، فقال النجدي : بئس الرأي
تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم ، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم ،