(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : من شأنه أن يخلق (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه خافية ، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : الأوّل : أنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا ، الثاني : أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة ، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج ، وقوله تعالى :
(ذلِكُمُ) إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى : (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلا أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبرا وقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا : إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلا لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ (لا تدركه الأبصار) بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ، ٢٣] ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ، ١٥] قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : حجب قوما بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوما يرونه بالطاعة وهي الإيمان ، وقال مالك رضي الله تعالى عنه : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله تعالى الكفار بالحجاب وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ، ٢٦] وهذه الزيادة مفسرة بالنظر إلى الله تعالى يوم القيامة ومن السنة ما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها)(١) [طه ، ١٣٠] ومنها أنّ ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هل تضامون في القمر ليلة البدر ـ أي : هل تشكّون؟ ـ» قالوا : لا ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فإنكم ترونه كذلك» (٢) وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه
__________________
(١) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة حديث ٥٥٤ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٥٥١ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٢٩ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٧٧.
(٢) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٠٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٨٢.