تركت اللات والعزى جميعا |
|
كذلك يفعل الرجل البصير |
ألم تعلم بأن الله أفنى |
|
رجالا كان شأنهم الفجور |
وأبقى آخرين ببرّ قوم |
|
فيربو منهم الطفل الصغير |
وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) ومفعول تعلمون متروك ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم ، ٤٠] وعلى كون (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حالا فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكا أو مقدرا وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به «الكشاف» لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أندادا بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.
تنبيه : قال البيضاوي : واعلم أنّ مضمون الآيتين أي : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى. وبيانه : أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي : الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي : فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أمورا لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به. ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي : اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي : اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حدّ مطلعا. اه.
هذا روي عن الحسن مرفوعا مرسلا ، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص ، وقيل : ظاهرها تلاوتها ، وباطنها فهمها ، والحدّ أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على معرفتها.
ولما قرّر سبحانه وتعالى وحدانيته وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقبه ما هو الحجة على نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كل بليغ مع كثرتهم وإفراطهم في المضادّة وتهالكهم على المغالبة بقوله تعالى :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي : شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد من القرآن أنه من عند الله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) وإنما قال تعالى : (مِمَّا نَزَّلْنا) لأنّ نزوله نجما فنجما بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان ، ٣٢] فكان الواجب تحدّيهم على هذا الوجه إزالة للشبهة وإلزاما للحجة ، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئا فشيئا