(فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم ؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بضياع نفقاتهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي : وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أي : أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسّلام : «الأنصار شعار والناس دثار» (١) رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى : (مِنْ دُونِكُمْ) أي : من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي : كائنة من دونكم أي : غيركم من الكفار المنافقين (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي : لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه (وَدُّوا) أي : تمنوا (ما عَنِتُّمْ) أي : عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي : تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه (قَدْ بَدَتِ) أي : ظهرت (الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : في كلامهم بالوقيعة فيكم واطلاع المشركين على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم ، وعن قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة والغيظ (أَكْبَرُ) أي : أعظم مما بدا ؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ما بين لكم فلا توالوهم.
فإن قيل : كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب : بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة.
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ) ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين وأولاء اسم للمشار إليهم وهم المؤمنون وقوله تعالى : (تُحِبُّونَهُمْ) أي : هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي منكم من القرابة والرضاع والمصاهرة (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لمخالفتهم لكم في الدين بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي : بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وفي هذا توبيخ شديد للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحو هذا قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء ، ١٠٤].
(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) أي : نفاقا وتغريرا (وَإِذا خَلَوْا) أي : خلا بعضهم ببعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أي : أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) أي : شدّة الغضب لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ويعبر عن شدّة الغضب بعض الأنامل مجازا ، وإن لم يكن ثم عض فيوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري (٢) :
فأقتل أقواما لئاما أذلة |
|
يعضون من غيظ رؤوس الأباهم |
__________________
(١) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٣٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٦١ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٦٤.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في الأغاني ١١ / ١٠٩.