بنصبها بتقدير أنفقوا ، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل : أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، كما قال الشاعر (١) :
خذي العفو مني تستديمي مودّتي |
|
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
وسورة الغضب : شدّته وحدّته ، وقال قتادة وعطاء والسدّيّ : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدّقون بالفضل بحكم هذه الآية ، وقال مجاهد معناه التصدّق عن ظهر غنى.
روي : «أن رجلا أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عنه صلىاللهعليهوسلم حتى كرّر مرارا ، فقال : هاتها مغضبا فأخذها ، فحذفه بها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : «يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» (٢) قال ابن الأثير : والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا ، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال. وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ، ٦٧] (كَذلِكَ) كما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل : كذلك أيها القبيل وقيل : هو خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق ، ١] (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي) زوال (الدُّنْيا) وفنائها فتزهدوا فيها (وَ) في إقبال (الْآخِرَةِ) وبقائها فترغبوا فيها (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الْيَتامى) وقد مرّ أنهم جمع يتيم ، وأن اليتيم طفل لا أب له ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام ، ١٥٢] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء ، ١٠] الآية تحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجا شديدا ، فإن واكلوهم يأثموا ، وإن عزلوا مالهم من مالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم فحرج ، فاشتدّ ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ) أي : اليتامى في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم معهم (خَيْرٌ) من مجانبتكم. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) أي : تخلطوا نفقتهم بنفقتكم (فَإِخْوانُكُمْ) أي : فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي : فلكم ذلك. وقيل : المراد بالمخالطة المصاهرة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) لأموالهم بمخالطته (مِنَ الْمُصْلِحِ) بها فيجازي كلا منهما ، ففي ذلك وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي : لضيق عليكم بتحريم المخالطة وما أباح لكم مخالطتهم ، وأصل العنت الشدّة والمشقة ، ومعناه : كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره ، يقدر على الإعنات وغيره (حَكِيمٌ) يحكم بما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.
(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عفا) ، وتاج العروس (عفا).
(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة حديث ١٦٧٣ ، والدارمي في الزكاة حديث ١٦٥٩.