يعرف حال ما ذكر ، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلما فيه فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك برا ، إلا أن يكون من الحمس وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نضر بن معاوية ، سموا حمسا لشدّتهم في دينهم ، والحماسة : الشدّة والصلاة ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لم دخلت من الباب وأنت محرم؟» قال : رأيتك دخلت فدخلت على إثرك فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فإني أحمس» فقال الرجل : فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ) أي : ذا البر (مَنِ اتَّقى) الله ، بترك مخالفته ، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج ، وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام ، ويختص بعلم النبوّة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ، ويهتموا بالعلم بها ، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت ، ودخل من ورائه ، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله.
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) في الإحرام كغيره ؛ إذ ليس في العدول برّ أو باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير الأحكام (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بالهدى والبرّ ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيوت بضمّ الباء حيث جاء معرفا كان أو منكرا ، وكسرها الباقون ، ولا خلاف في وليس البرّ هنا ، أنّ الراء مرفوعة للجميع ، وقرأ نافع وابن عامر : ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء ، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء ، ولما صدّ المشركون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن البيت عام الحديبية ، وذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج مع أصحابه للعمرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون من البيت الحرام ، وصالحوه على أن يرجع من قابل ، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم ، والإحرام والشهر الحرام ، وكره المسلمون ذلك نزل.
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ