(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) : انبسطت عرصات قلوبهم لتراكم غيوم القبض ، وتتابعت على أسرارهم أنوار العظمة ، فأبرزت الأرض من عظائم برحاء مواجيدهم ، وتراكم حقائق همومهم ، فلا يبقى ذرة من الأرض إلا واستغرقت في بحار أنفاسهم الملكوتية ، واحترقت بنيران أفئدتهم الجبروتية ، وما رأوا على وجه الأرض ما يستأنسون به غير الله.
ثمّ وصف نفوسهم بفنائها في آثار قلوبهم ، بقوله : (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) ضاقت نفوسهم من حمل وارد الغيب عليهم ، وعن أثقال أرواحهم ، التي هي مطايا أسرار الألوهية ، ولطائف كنوز الربوبيّة ، وفنوا تحت سلطان كبريائه ، ودخلوا تحت أكناف لطفه من عزائم قهره.
بقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) عرفوا موضع الفرار منه إليه ، فقطعوا الوسائط ، وخاضوا في بحار القهر بسفن اللطف ، فلمّا رآهم منفردين من دونه ، أقبل إليهم بنوادر لطفه ؛ ليقلبهم من الكون إلى وجهه ، بقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) رفع حجاب الحشمة من البين ؛ ليدخلوا الحضرة بوصف الأنس ، اشتاق إليهم ، فشوّقهم إليه ، ثم وصف نفسه بأنه قابل التوبة في الأزل ، رحيم على من رجع إليه ، بأن أمنه بعد خوفه ، وقرّبه بعد بعده.
قال أبو عثمان : من رجع إلى الله ، وإلى سبيله ، فلتكن صفته هذه الاية ، تضيق عليه الأرض حتى لا يجد فيها لقدمه موضع قرار ، إلّا وهو خائف أنّ الله ينتقم منه فيها ، وتضيق عليه أحوال نفسه ، فينتظر الهلاك مع كلّ نفس ، هذه أوائل دلائل التوبة النصوح ، ولا يكون له ملجأ ولا معاد ولا رجوع ؛ إلّا إلى الله بانقطاع قلبه عن كلّ سبب.
قال الله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ).
وقيل في قوله : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) لن يعتمدوا حبيبا ، ولا خليلا ، ولا كليما ، بل قلوبهم منقطعة عن الخلق أجمع ، وعن الأكوان كلّها.
لذلك قيل : المعارف ألّا تلاحظ حبيبا ولا خليلا ولا كليما ، وأنت تجد إلى ملاحظة الحقّ سبيلا.
وقال أحمد بن خضرويه ، لأبي يزيد : بماذا أصل إلى التوبة النصوح؟
قال : بالله وبتوفيقه ، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).
قال بعضهم : عطف عليهم بنوال عطفه ونعمه وفضله ، فألفوا إحسانه ، ورجعوا إليه ،