وشواهد أسرارهم من ظلمة الإنكار تظهر عن سواد وجوههم عند سماع الخطاب ، يعرفها كل بصير بالله ، ومن كمال شقاوتهم لا يعرفون أصلا من أصل ، ونورا من نور ، وجلالا من جلال ، وقدما من قدم ، وأزلا من أزل الذي مصادره أوجدتهم يا ليتهم يعرفون مصادر القهريات التي نقضتهم إلى ميادين الغفلة ؛ فإنهم لو يبصرون معادن فطرتهم لا يخالفون ما يصدر من معادن اللطفيات ، فإن جميع المصادر الأزلية واحدة من جميع الوجوه.
قال أبو بكر بن طاهر : يتبين في شواهد المعرضين عنا آثار الوحشة وظلمة المخالفة ؛ لأن الظواهر إنما أشرقت بالسرائر ، والسرائر أشرقت بأنوار الحق ؛ فمن كان سره في ظلمة وإنكار كيف يلوح آثار الأنوار على شاهده ، وكل شاهد ، شاهد الأعراض والأكوان هو في ظلمة حتى شاهد الحق ، ولا يشاهد معه غيره إذ ذاك يلوح عليه أنوار مشاهدة الحق ، قال الله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ).
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))
قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) بيّن الله سبحانه ذل الخليقة تحت قهر سلطانه وعظمة كبرياء قدمه لئلا يقبل على معدن الضعف ، وذل من يطلب العز السرمدي ؛ فإن الخليقة ممنوعة عن قوة قادرية أحدية ، وكيف يكون لها مشيئة وقدرة وجميعها في قبضة الجبروت عاجزة أسيرة لعزته ، وجلاله ، دعا الخلق بنعت الإقبال إليه بلسان الغيرة عن الإقبال على معادن الحدثية ليكونوا عارفين بعز الربوبية وذل الخليقة.
قال ابن عطاء : دلهم بهذا على مقاديرهم ؛ فمن كان أشد هيبة ، وأعظم ملكا لا يمكنه الاحتراز من أهون الخلق وأضعفه ؛ ليعلم بذلك عجزه وضعفه وعبوديته وذلته ، ولا يفتخر على أبناء جنسه من بني آدم بما يملكه من الدنيا.
قال أبو بكر بن طاهر : «ضعف الطالب» أن يدركه ، والمطلوب أن يفوته.
ثم بيّن سبحانه بعد ذكره عجز الخلق والخليقة جلال قدرة الذي لا يعرفه غيره بقوله :