فيما رميت به ، وبراءة نفسه فيما يدعى فيه ، ولي رمز ها هنا لما أراد سبحانه أن ينطق عيسى بكلمة التوحيد ، وإقراره بالعبودية أمر أمه بالصمت ؛ لأن لسان مريم لسان الظاهر لها ، ولسان عيسى لسان باطنها ؛ فإذا سكت ظاهرها نطق لسان باطنها بقدرة الله ، وتأييده الأزلي ، وهكذا شأن العارفين إذا سكتوا بالظاهر تنطق ألسنة أرواحهم بنطق الغيب الإلهي ؛ لذلك قال سبحانه : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : صمتا أي : إذا كنت في رؤية الخلق ، وترين في البين أحدا لا تتكلمي بالحجة ؛ فإنك لا تبلغين إلى دفع الخصماء بنطقك ، وإذا سكت عن الحجة ، وفوضت أمرك إليّ ؛ فإني أنطق ابنك بالحجة البالغة بالألوهية.
قال ابن عطاء : صمتا يدل ذلك على ترك الانتصار للنفس ، فقيل لها : اسكتي ، ولا تنتصري ؛ فإنك إن أردت أن تبرئي نفسك بحجتك لم تزدادي بذلك إلا شغلا ؛ فإن كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك ، وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة ، فلزمت الصمت ، فلما علم الله صدق انقطاعها إليه أنطق الله عيسى ببراءتها ؛ فقال الله تعالى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أبان عن أكرم الأسباب ، وأسقط دعاوى من يدعي فيه ما لا يجب ، وأقر بالعبودية لله فلما سكتت مريم عن الكلام بالحجة ، أنطق الله ابنها بلطيف المعجزة ، وأقرّ في المهد بالعبودية بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً).
هذا محض معجزته ؛ لأنه نطق بالحق ، وتفرس بنور النبوة أن قومه جاءوا بالإشارة إليه بالألوهية ؛ فنفى العلة من البين حتى لا يكون لهم شبهة بأنه عبد من عبيده ، وأمين من أمنائه ، وإن كان عليه كسوة أنوار الربوبية ؛ انظر كيف حركته في المعرفة حتى اجترأ لي بعبودية القديم الأزلي الذي لا يقوم بعبوديته الأكوان والمحدثان بأسرها في مقام واحد ، ولو تلقى ذرة من حقوق العبودية على جميعهم لذابوا في تحت أثقالها؟
وقوله : (آتانِيَ الْكِتابَ) أي : أنا من أهل سماع كلامه القديم ، ولقائه الكريم أخبر الخلق والخليقة من الحقيقة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)) صديقا مخبرا عن وصاله (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) على لباس بركة جماله أي : حيث كنت ، وأكون في الأرض والسماء مباركا ، وبركتي تصل إلى المؤمنين بأني قرة عيونهم ، ومن تلك البركة أذهب عنهم البلاء وبها أحيي الموتى.
(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) بظاهر العبودية ، والخدمة التي فيها لطائف المناجاة ، وفتح أبواب المشاهدات ، وزكاتي بذل وجودي له ، وهذه العبودية المباركة واجبة عليّ ، وعلى من اتبعني ، وإن بلغنا إلى منازل الاتصاف والإنصاف والاتحاد.