تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))
قوله تعالى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (١) أحسن الأدب موسى عليهالسلام حيث استأذن في المتابعة عرف موسى أن علم الحق لا نهاية له ، فاشتاق إلى ما فوق علمه ، فاستعلم مكنونه من مواضع تجليه وخاصية خطابه ، وذلك الرشد الأعلى بحيث إذا علم عرف في جنبه الحق بنعت خاص دون ما علمه السيار والسباح في بحر وحدانيته ، وميادين قدرة غرثانه إلى علم ألوهيته ، ولا بأس ، فإن ذلك العلم الذي عند الخضر لم يكن عند موسى ، فأراد سبحانه أن يعرف موسى ذلك العلم السري النور الغيبي فامتن بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريق ولتقويم السنة في متابعة المشايخ ، وليكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة ، وكان موسى أعلم من الخضر بما عنده من الحق ، ولكن ليس عنده ما كان عند الخضر في ذلك الوقت فساعده التوفيق ، فعرف منه أبواب تلك الأسرار المكتومة ، فدخل في باب علم الخضر إلى عالم العلم المجهول ، وبلغ إلى مقام فيه غاب علم الخضر ، وعلم جميع الخلق هناك ، وهذا زيادة فضل الله على موسى.
قال فارس : إن موسى كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ، والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى.
وقال أيضا : إن موسى كان مبقى عليه صفته ؛ ليأخذ الغير أدبه ، فمن انقطع عن الرياضة كان على حسب العصمة والتمكين فيه ، والخضر كان فانيا مستهلكا ، والمستهلك لا حكم له ، وموسى كان باقيا بالحق ، ولا فرق بينهما ؛ لأنهما تكلما من معدن واحد ، ثم إن الخضر تعلل ، ودفع صحبة موسى عليهالسلام ونسب موسى إلى قلة الصبر معه ، وبقلة العلم بما عنده وهو يعلم أن موسى أكرم الخلق على الله في زمانه ، وهو رجل منبسط معربد ، ففزع من صحبته فدفع صحبته بقوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فقرن الصبر بالعلم ، وبين أن قلة الصبر من الجهل ، وكان موسى صابرا عالما ، ولكن من حمية في دينه وشريعته ، لم يقبل ما لا يوافق الشرع ، وذلك ليس قلة الصبر ، ولا قلة العلم ؛ إنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحفظ لحدود الله ، كان موسى مستغرقا في بحر جمال الحق وسماع كلامه المسفر منه بلا وساطة ، وذلك الكلام أخبره عن سر الأسرار ، وغرائب علوم الربوبية ، وكان فارغا عن
__________________
(١) فصار جوابه لن من الحق ومن الخلق ليبقى موسى بلا موسى ويصفو موسى عن كل نصيب لموسى بموسى. تفسير حقي (٤ / ٢٦٨).