يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) شبه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرها إذا أذيبا لاتخاذها الحلي ، وبيّن أن لها زبد مثل أن لهما زبد ، ومثل زبد السيل في ذوبانهما ؛ فيذهب زبدها بعد إذابتهما سريعا من غلبة النيران ، ويمكث في البوتقة أصلها الصافي ؛ فكذلك أعمال الظاهر والباطن فيدخل في بوتقة الإخلاص التي تحتها نيران المحبة ؛ فيذهب ماء الحظوظ ونظر الأغيار ، وبقى ما هو خالص لله ، وكذلك الخواطر فخاطر الحق يبقى في القلب وخاطر الباطن يطير ولا يبقى ؛ لأن خاطر الحق من أثقال إلهام الحق ؛ فيمكث في القلب خاطر الوسواس هذيان لا أصل له ؛ فيفنى سريعا من غلبة أنوار المعرفة والمحبة.
قال ابن عطاء : ما كان من الأحوال صدقا ثبت في القلوب بركتها ، وما كان غير ذلك فإنها لا تبق فيه خيرا.
قال الشبلي : احتملت القلوب من الزوائد على مقدار ما فتح الله عليها من أنواع بره.
وقال بعضهم : القلوب أوعية وفيها أودية ؛ فقلب يسيل فيه ماء التوبة ، وقلب يسيل فيه ماء الرحمة ، وقلب يسيل فيه ماء الخوف ، وقلب يسيل فيه ماء الرجاء ، وقلب يسيل فيه ماء المعرفة ، وقلب يسيل فيه ماء الأنس ، وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا القربة والقرب من الله عزوجل ، وبعد هذه القلوب قلوب قاسية حرمة التوفيق ؛ فهي في ميادين الشقاق يخبطه إلى أن يبلغها الله مقام الأشقياء.
ولي إشارة أخرى : أن الله سبحانه أوقد نيران المحبة في صميم الأرواح من تأثير تجلي جماله ؛ فلما حميت الأرواح من حرق المواجيد تؤثر حرارتها في القلوب ، فتلقي القلوب ما فيها من أنواع الشهوات ، ثم هاج فطرتها السليمة إلى طلب الحق ومشاهدة ؛ فيتعرف من شدة التهاب نيران المحبة والشوق ، ويصعد عرفها من قارورة عرق الكواشف والمعارف إلى الأدمغة ؛ فيسيل ذلك العرق على أودية العيون وصحاري الوجوه ؛ فما أطيب ذلك العرق ويا لها من طيبه ولذته.
كما قيل : كل جمرة فمن أنفاسهم قدحت ، وكل داء فمن عين لهم جاري.
ويقال : إن الأنوار إذ تلألأت في القلوب نفت الاثار الظلمة ؛ فنور اليقين يفني ظلمة الشك ، ونور العلم يفني قمة الجهل ، ونور المعرفة يمحو أثر النكرة ، ونور المشاهد يفني آثار البشرية ، وأنوار الجمع يفني آثار التفرقة ، وعند أنوار الحقائق يتلاشى آثار الحظوظ ، وأنوار طلوع الشمس من حيث العرفان تفني صدفة الليل من حيث حسبان تأثير الأغيار.