الخجالة بين يديه ؛ فإنه يعفو عنكم ، وفيه إشارة تعليم عزة قدرته أي : لا تيأسوا من قدرة الله ؛ فإنه قادر بأن يوصل يوسف عليهالسلام إلينا بأقل من طرفة عين ، ولو كان فانيّا ، وإن من لم يؤمن بذلك مبعدة من الله بقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ، وإنهم إن الإياس في مقام الإيمان من صفات النفس الأمّارة ، والإياس في صفات المعرفة من صفات القلب ، وذلك قنوطه من وصوله إلى مطالعة حقائق القدم ، وذلك من غلبة التوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث ، وتحت ذلك الإياس بحار من حسن الرجاء بالوصال ، والبقاء في البقاء ، وبعد الفناء في الفناء ، وعن رؤية سرمدية القدر.
وقال الجنيد : يحقق رجاء الراجين عند تواتر المحن ، وترادف المصائب ؛ لأن الله يقول : (لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، والنبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «أفضل العبادة انتظار الفرج» (١).
قال تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أما قوله : يا أيها العزيز أي : أيها المتلبس بأنوار الربوبية التي كسبت في الأزل ظاهرا وباطنا ، أيها الممتنع من أن يراك أحد بالشهوة ، وأيها الغالب على سلب قلوب الخلائق بالجمال والجلال مسنا وأهلنا ضر فراقك ، وبعد وصالك نحن في ضر جنايتنا محجوبون عن جمالك وأبوك وأهاليك في ضر البعاد عن رؤيتك ووصالك ، وأنشد :
كفى حزنا بالواله الصّبّ أن يرى |
|
منازل من يهوى معطلة قفرا |
(مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) من تضير الله إيانا في حقك وعتابه فيما فعلنا ، وأيضا مسّنا ضر الخجالة بين يديك ، قال تعالى : (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) بعذر من جنايتنا ما لا يليق بما فعلنا بك بكيل عفوك ، وتصدق علينا بالتجاوز عما فعلنا ؛ فإن الله يجزي المتصدقين بأنه يعافيك عما هممت به ، وبأن يكرمك أحسن الإكرام من لطيف الإنعام ، وما أحسن افتقار الفقراء أو المبتدئين عند أكابر القوم ، وتواضعهم بين أيديهم ، وتسميتهم بأسماء التعظيم ، كما فعل بنو إسرائيل عند يوسف عليهالسلام باءوا بذكر المقاسات والفقر حين رأوا بساطا بسيطا عن ملكه وسلطانه.
ثم ذكروا قلة بضاعتهم حين شاهدوا هيبة يوسف عليهالسلام ومهابته وجلال قدره ، فلما انبسط إليهم انبسطوا إليه ، وقالوا : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فلما طالعوا أن بضاعتهم لا يليق بمثل بساطه تبسطوا ، وقالوا : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) ؛ فإن ما معنى لا يليق بعرض بيعك
__________________
(١) رواه الترمذي (٥ / ٥٦٥) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٣) ، والطبراني في «المعجم الأوسط» (٥ / ٢٣٠).