أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله. والعمل بما أمر به. والترك لما نهى عنه ، ومثل ذلك قوله سبحانه : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١) وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء ، وقيل المراد بأرض هنا : أرض الجنة ، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله : (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٢) والأوّل أولى. ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا ، وكان لا بدّ في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كفّ النفس عن الشهوات ، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب ، أي : بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل : أجرهم الجنة ، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل أن الآية تدلّ على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له ، لأن كلّ شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه ، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه ، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كلّ راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يردّ قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيرا قد سلب ، ولا يدفع مكروها قد وقع ، وإذا تصوّر العاقل هذا حقّ تصوره وتعقله حقّ تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم ، وظفر بهذا الجزاء الخطير ، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى ، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ، فضمّ إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع ، وما أحسن قول من قال :
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب |
|
فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب |
هناك يحقّ الصبر والصبر واجب |
|
وما كان منه للضرورة أوجب |
ثم أمر سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : أعبده عبادة خالصة من الشرك والرّياء وغير ذلك. قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : ما يحملك على الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزّى فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية ، وقد تقدّم بيان معنى الآية في أوّل هذه السورة (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي : من هذه الأمة ، وكذلك كان صلىاللهعليهوسلم فإنه أوّل من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد ، واللام للتعليل : أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون ، وقيل : إنها مزيدة للتأكيد ، والأوّل أولى.
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) يعني : الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فيقولون لا إله إلا الله ، ثم قال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وهم عباده المخلصون الذين قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) قال : لا يرضى لعباده المسلمين الكفر. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : والله ما رضي
__________________
(١). النساء : ٩٧.
(٢). آل عمران : ١٣٣.