عن قدرة البشر ، أي : هذا المدّعى للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدّعيه من أن الله أرسله. قيل : ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم ، وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر. ثم أنكروا ما جاء به صلىاللهعليهوسلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) أي : صيرها إلها واحدا وقصرها على الله سبحانه (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي : لأمر بالغ في العجب إلى الغاية. قال الجوهري : العجيب الأمر الذي يتعجب منه ، وكذلك العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه قرأ الجمهور «عجاب» مخففا. وقرأ عليّ والسلمي وعيسى بن عمر وابن مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل : عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة ، قيل : والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحدّ في العجب ، كما يقال الطويل : الذي فيه طول ، والطوال الذي قد تجاوز حدّ الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجّاب مشدّد الجيم لا بالمخفف ، وقد قدّمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالملإ : الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي : انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين (أَنِ امْشُوا) أي : قائلين لبعضهم بعضا امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي : اثبتوا على عبادتها ، وقيل المعنى : وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم ، و «أن» في قوله : (أَنِ امْشُوا) هي المفسرة للقول المقدّر ، أو لقوله : (وَانْطَلَقَ) لأنه مضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر ، أو للمذكور ، أي : بأن امشوا. وقيل المراد بالانطلاق : الاندفاع في القول ، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ، أي : اجتمعوا وأكثروا ، وهو بعيد جدّا ، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما ، وخلاف ما تقدم في سبب النزول ، وجملة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر ، أي : يريده محمّد بنا وبآلهتنا ، ويودّ تمامه ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا فيتحكم بما يريد ، فيكون هذا الكلام خارجا مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى : إن هذا الأمر يريده الله سبحانه ، وما أراده فهو كائن لا محالة ، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى : إن دينكم لشيء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، والأوّل أولى (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي : ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمّد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام ، كذا قال محمّد بن كعب القرظي ، وقتادة ومقاتل ، والكلبي ، والسدّي. وقال مجاهد : يعنون ملة قريش ، وروي مثله عن قتادة أيضا. وقال الحسن : المعنى ما سمعنا : أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى : ما سمعناه من اليهود والنصارى أن محمّدا رسول (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي : ما هذا إلا كذب اختلقه محمّد وافتراه. ثم استنكروا أن يخصّ الله رسوله بمزية النبوّة دونهم فقالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) والاستفهام للإنكار ، أي : كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف؟ قال الزجاج : قالوا كيف أنزل على محمّد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه؟ وهذا مثل قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١) فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١). الزخرف : ٣١.