مبكتا لهم ، ومنكرا عليهم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي : أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها ، والنحت : النجر والبري ، نحته ينحته بالكسر نحتا : أي براه ، والنحاتة البراية ، وجملة : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون ، و (ما) في (ما تَعْمَلُونَ) موصولة ، أي : وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا ، ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : خلقكم وخلق عملكم ، ويجوز أن تكون استفهامية ، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع ، أي : وأي شيء تعملون ، ويجوز أن تكون نافية ، أي : إن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئا ، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية ، ولكن بما لا طائل تحته ، وجعلها موصولة أولى بالمقام ، وأوفق بسياق الكلام ، وجملة : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر كالجملة التي قبلها ، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة ، فتشاوروا فيما بينهم أن بينوا له حائطا من حجارة ويملؤوه حطبا ويضرموه ، ثم يلقوه فيه ، والجحيم : النار الشديدة الاتقاد ، قال الزجاج : وكلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم ، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه ؛ أي : في جحيم ذلك البنيان ، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها ، وجعلها عليه بردا وسلاما ، وهو معنى قوله : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الكيد : المكر والحيلة ، أي : احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين ، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ، ولا يمكنهم جحدها ، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها بردا وسلاما ، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كلّ من له عقل ، وصار المنكر له سافلا ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف ، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحا ، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير. ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين ، وظهرت حجة الله لإبراهيم ، وقامت براهين نبوته ، وسطعت أنوار معجزته (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي : مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصبا للأصنام ، وكفرا بالله ، وتكذيبا لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه. أو إلى حيث أتمكن من عبادته (سَيَهْدِينِ) أي : سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه ، أو إلى مقصدي.
قيل : إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام ، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى (١). قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولدا صالحا من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون ، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد ، فتحمل عند الإطلاق عليه ، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٢) وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) يدل على أنه
__________________
(١). ورده سير إبراهيم إلى الشام في سورة العنكبوت آية : ٢٦.
(٢). مريم : ٥٣.