لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فقال : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) واللام هي الموطئة للقسم ، وكذا اللام في قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي : نحن ، والمراد أن نوحا دعا ربه على قومه لما عصوه ، فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان. فالنداء هنا هو نداء الدعاء والاستغاثة به ، كقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١) وقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (٢) قال الكسائي : أي فلنعم المجيبون له كنا (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) المراد بأهله أهل دينه ، وهم من آمن معه ؛ وكانوا ثمانين ، والكرب العظيم : هو الغرق ، وقيل : تكذيب قومه له ، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل ، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ، ولم يبق منهم باقية ، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ، ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح ، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحاتم أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند ، والهند ، والنوب ، والزنج ، والحبشة ، والقبط ، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب والترك والخزر ويأجوج ومأجوج وغيرهم. وقيل : إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) (٣) وقوله : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) فيكون على هذا معنى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وذرّيته وذرية من معه دون ذرّية من كفر ، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرّية (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم ، والمتروك هذا هو قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) أي : تركنا هذا الكلام بعينه ، وارتفاعه على الحكاية ، والسلام هو الثناء الحسن ، أي : يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج : تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة ، وذلك الذكر هو قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ). قال الكسائي : في ارتفاع سلام وجهان : أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح. والوجه الثاني : أن يكون المعنى : وأبقينا عليه ، وتمّ الكلام ، ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح ، أي : سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد : أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية : يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي كقوله : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (٥) وقيل : إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكوفيون : جملة سلام على نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا ، لأنه ضمن معنى قلنا. قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود «سلاما» منصوب بتركنا ، أي : تركنا عليه ثناء حسنا ، وقيل : المراد بالآخرين أمة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وفي العالمين متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبرا ، وهو على نوح ، أي : سلام ثابت أو مستمرّ أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة والجنّ والإنس ، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمّد صلىاللهعليهوسلم كما قيل : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه ، وبقاء الثناء من الله عليه ، وبقاء ذريته ، أي : إنا كذلك نجزي من كان محسنا في أقواله وأفعاله راسخا في الإحسان معروفا به ، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف ، أي :
__________________
(١). نوح : ٢٦.
(٢). القمر : ١٠.
(٣). الإسراء : ٣.
(٤). هود : ٤٨.
(٥). النور : ١.