على ربه والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) والمراد بالحكم : العلم والفهم ، وقيل : النبوّة والرسالة ، وقيل : المعرفة بحدود الله وأحكامه إلى آخره (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يعني : بالنبيين من قبلي ، وقيل : بأهل الجنة (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي : اجعل لي ثناء حسنا في الآخرين ، الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. قال القتبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة. لأن القول يكون به ، وقد تكني العرب بها عن الكلمة ، ومنه قول الأعشى :
إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها (١)
وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (٢) فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه. وقال مكي : قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت دعوته في محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا وجه لهذا التخصيص. وقال القشيري : أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ، ولا وجه لهذا أيضا ، فإن لسان الصدق أعم من ذلك (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) من ورثة : يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا ، وأن يكون صفة لمحذوف ، هو المفعول الثاني ، أي : وارثا من ورثة جنة النعيم ، لما طلب عليهالسلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا ، طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وجعلها مما يورث ، تشبيها لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا ، وقد تقدّم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) كان أبوه قد وعد أنه يؤمن به ، فاستغفر له فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة ، وسورة مريم ، ومعنى «من الضالين» من المشركين الضالين عن طريق الهداية ، وكان زائدة على مذهب سيبويه كما تقدّم في غير موضع (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي : لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي ، أو لا تعذبني يوم القيامة ، أو لا تخزني بتعذيب أبي ، أو ببعثه في جملة الضالين. والإخزاء يطلق على الخزي : وهو الهوان ، وعلى الخزاية ، وهي الحياء ، و (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) بدل من يوم يبعثون ، أي : يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحدا من الناس ، والابن : هو أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحماية ، والدفع ، والنفع ، فإذا لم ينفع ، فغيره من القرابة والأعوان بالأولى. وقال ابن عطية : إن هذا وما بعده من كلام الله ، وهو ضعيف ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قيل : هو منقطع ، أي : لكن من أتى الله بقلب سليم. قال في الكشاف : إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، فقدّر مضافا محذوفا. قال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. وقيل : إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف ، أو مستثنى منه ، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحدا من الناس إلّا من كانت هذه صفته ، ويحتمل أن يكون بدلا من فاعل ينفع ، فيكون مرفوعا. قال أبو البقاء : فيكون التقدير : إلّا مال من أو بنو من فإنه ينفع.
واختلف في معنى القلب السليم ، فقيل : السليم من الشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، قاله
__________________
(١). وعجز البيت : من علو لا عجب منها ولا سخر.
(٢). الصافات : ٧٨.