كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة ، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم ، فأوّل ما نزل في أمرها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (١) فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ولم يتركه آخرون ، ثم نزل قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (٢) فتركها البعض أيضا ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) فصارت حراما عليهم ، حتى كان يقول بعضهم : ما حرّم الله شيئا أشدّ من الخمر ، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر ، وفيما جاءت به الأحاديث الصّحيحة من الوعيد لشاربها ، وأنّها من كبائر الذنوب.
وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعا لا شكّ فيه ولا شبهة ، وأجمعوا أيضا على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمرا ، وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام. وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) ومن المفاسد الدينية بقوله : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ). قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ. ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا : انتهينا ، ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) أي مخالفتهما : أي مخالفة الله ورسوله ، فإن هذا وإن كان أمرا مطلقا فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد ، وهكذا ما أفاده بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إن أعرضتم عن الامتثال ، فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم ، ولم تضرّوا بالمخالفة إلا أنفسكم ، وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه. قوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) أي من المطاعم التي يشتهونها ، والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (٣) أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائنا ما كان مقيدا بقوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا) أي اتقوا ما هو محرّم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر ، وجميع المعاصي (وَآمَنُوا) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال التي شرعها الله لهم : أي استمروا على عملها. قوله : (ثُمَّ اتَّقَوْا) عطف على اتقوا الأوّل : أي اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحا فيما سبق (وَآمَنُوا) بتحريمه (ثُمَّ اتَّقَوْا) ما حرّم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحا من قبل (وَأَحْسَنُوا) أي عملوا الأعمال الحسنة ، هذا معنى الآية ؛ وقيل : التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ؛ وقيل : إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث ، المبدأ ، والوسط ، والمنتهى ؛ وقيل : إنّ التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان ، فإنه ينبغي له أن يترك المحرّمات توقيا من العذاب ، والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام ، وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة ؛ وقيل : إنه لمجرّد التأكيد ، كما في قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ـ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) ، هذه الوجوه كلّها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية ، وإما مع النظر إلى سبب نزولها ، وهو أنه لما نزل تحريم الخمر ، قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل
__________________
(١). البقرة : ٢١٩.
(٢). النساء : ٤٣.
(٣). البقرة : ٢٤٩.
(٤). التكاثر : ٣ ـ ٤.