(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) بالهداية إلى الدين الحق ، فإنهم لم يختلفوا ، أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام ، بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله ، وهو الحق الذي لا حق غيره ، أو إلا من رحم ربك بالقناعة. والأولى تفسير : لجعل الناس أمة واحدة ، بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) واضحا غير محتاج إلى تكلف (وَلِذلِكَ) أي : لما ذكر من الاختلاف (خَلَقَهُمْ) أو لرحمته خلقهم ، وصحّ تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي ، والضمير في خلقهم راجع إلى الناس ، أو إلى : من في : من رحم ربك ؛ وقيل : الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ، ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢) (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٣). قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) معنى تمت ثبتت كما قدّره في أزله ، وإذا تمت امتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة : هي قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي : ممن يستحقّها من الطائفتين ، والتنوين في (وَكُلًّا) للتعويض عن المضاف إليه ، وهو منصوب بنقص. والمعنى : وكل نبأ من أنباء الرسل مما يحتاج إليه نقصّ عليك : أي نخبرك به. وقال الأخفش (كُلًّا) حال مقدّمة كقولك : كلا ضربت القوم ، والأنباء : الأخبار (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي : ما نجعل به فؤادك مثبتا بزيادة يقينه بما قصصناه عليك ووفور طمأنينته ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم ، وجملة (ما نُثَبِّتُ) بدل من أنباء الرسل ، وهو بيان لكلا ، ويجوز أن يكون (ما نُثَبِّتُ) مفعولا لنقصّ ، ويكون كلا مفعولا مطلقا ، والتقدير : كل أسلوب من أساليب الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبت به فؤادك (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أي : جاءك في هذه السورة ، أو في هذه الأنباء البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد (وَمَوْعِظَةٌ) يتعظ بها الواقف عليها من المؤمنين (وَذِكْرى) يتذكر بها من تفكر فيها منهم ، وخصّ المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر ؛ وقيل المعنى : وجاءك في هذه الدنيا الحق ، وهو النبوّة ؛ وعلى التفسير الأوّل يكون تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور لقصد بيان اشتمالها على ذلك ، لا بيان كونه موجودا فيها دون غيرها (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا الحق ولا يتعظون ولا يتذكرون (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على تمكنكم وحالكم وجهتكم ، وقد تقدّم تحقيقه (إِنَّا عامِلُونَ) على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق والاتعاظ والتذكر ، وفي هذا تشديد للوعيد والتهديد لهم ، وكذلك قوله : (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) فيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى. والمعنى : انتظروا عاقبة أمرنا فإنا منتظرون عاقبة أمركم وما يحلّ بكم من عذاب الله وعقوبته (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما ؛ وخصّ الغيب من كونه يعلم بما هو مشهود ، كما يعلم بما هو مغيب ، لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره ، وقيل : إن غيب السموات والأرض : نزول العذاب من السماء ، وطلوعه من الأرض ، والأوّل أولى ، وبه قال أبو عليّ الفارسي وغيره ، وأضاف الغيب إلى المفعول توسعا (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي : يوم القيامة فيجازي كلا بعمله. وقرأ نافع وحفص (يُرْجَعُ) على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك كل ما تكره ، ومعطيك كل ما تحبّ ،
__________________
(١). البقرة : ٦٨.
(٢). الإسراء : ١١٠.
(٣). يونس : ٥٨.