قوله : (إِلى قَوْمِهِمْ) وقيل : ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح ، أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وقيل : إن الباء في بما كذبوا به من قبل للسّببية ؛ أي : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرّسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم ، وفيه نظر. وقيل المعنى : بما كذبوا به من قبل : أي في عالم الذرّ فإن فيهم من كذب بقلبه ، وإن آمنوا ظاهرا. قال النحاس : ومن أحسن ما قيل : إنه لقوم بأعيانهم (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي : مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحدّ المعهود في الكفر. وقد تقدّم تفسير هذا في غير موضع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الأعرج في قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) يقول : فأحكموا أمركم وادعوا شركاءكم. وأخرج أيضا عن الحسن في الآية. أي : فليجمعوا أمرهم معكم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) قال : لا يكبر عليكم أمركم (ثُمَّ اقْضُوا) ما أنتم قاضون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ اقْضُوا) قال : انهضوا (إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) يقول : ولا تؤخرون.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))
قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) معطوف على قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً) والضمير في : من بعدهم ، راجع إلى الرسل المتقدّم ذكرهم ، وخصّ موسى وهارون بالذّكر مع دخولهما تحت الرسل : لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون ، والمراد بالملإ : الأشراف ، والمراد بالآيات : المعجزات ، وهي التّسع المذكورة في الكتاب العزيز (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها ، ولم يتواضعوا لها ، ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي : كانوا ذوي إجرام عظام وآثام