كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) أي : عظم وثقل ، والمقام بفتح الميم : الموضع الذي يقام فيه ، وبالضم : الإقامة. وقد اتفق القراء على الفتح ، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال : فعلته لمكان فلان ، أي : لأجله ، ومنه : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) (١) أي : خاف ربّه ، ويجوز أن يراد بالمقام المكث ، أي : شقّ عليكم مكثي بين أظهركم ، ويجوز أن يراد بالمقام : القيام ؛ لأنّ الواعظ يقوم حال وعظه ؛ والمعنى : إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم ، وكبر عليكم تذكيري لكم (بِآياتِ اللهِ) التكوينية والتنزيلية (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) هذه الجملة جواب الشرط ، والمعنى : إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله ، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديما وحديثا. ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل ، ويجوز أن يكون جواب الشرط (فَأَجْمِعُوا) وجملة (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) اعتراض ، كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئا فالله حسبي. ومعنى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) اعتزموا عليه ، من أجمع الأمر : إذا نواه وعزم عليه ، قاله الفراء. وروي عن الفراء أنه قال : أجمع الشيء : أعدّه. وقال مؤرج السدوسي : أجمع الأمر : أفصح من أجمع عليه ، وأنشد :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع |
|
هل أغدون يوما وأمري مجمع |
وقال أبو الهيثم : أجمع أمره : جعله جميعا بعد ما كان متفرّقا ، وتفرّقه أن تقول مرّة : أفعل كذا ، ومرّة : أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه ، أي : جعله جميعا ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم. وقد اتفق جمهور القراء على نصب (شُرَكاءَكُمْ) وقطع الهمزة من أجمعوا. وقرأ يعقوب وعاصم الجحدري بهمزة وصل في اجمعوا على أنه من جمع يجمع جمعا. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب : وشركاؤكم بالرفع. قال النحّاس : وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه : الأوّل بمعنى وادعوا شركاءكم ، قاله الكسائي والفرّاء ، أي : ادعوهم لنصرتكم ، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر. وقال محمد بن يزيد المبرّد : هو معطوف على المعنى كما قال الشاعر :
يا ليت زوجك في الوغى |
|
متقلّدا سيفا ورمحا |
والرمح لا يتقلّد به ، لكنه محمول كالسيف. وقال الزجّاج : المعنى مع شركائكم ، فالواو على هذا ، واو مع. وأما على قراءة اجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر ؛ أي : اجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم. وأما توجيه قراءة الرفع ، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في اجمعوا ، وحسّن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال. قال النحّاس وغيره : وهذه القراءة بعيدة لأنه لو كان شركاءكم مرفوعا لرسم في المصحف بالواو ، وليس ذلك موجودا فيه. قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي : وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم ، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل : لقصد التوبيخ ، والتقريع لمن عبدها. وروي عن أبيّ أنه قرأ : وادعوا شركاءكم بإظهار الفعل. قوله (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) الغمة : التغطية من قولهم ، غمّ الهلال : إذا استتر ؛ أي : ليكن أمركم ظاهرا منكشفا. قال طرفه :
__________________
(١). الرحمن : ٤٦.