لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك ، وذلك مخالف لما يوجبه العقل ، ولهذا عقبه بقوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) والمعنى : أنهم وإن سموا معبوداتهم : شركاء لله ، فليست شركاء له على الحقية ، لأن ذلك محال (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وما : في : وما يتبع : نافية ، وشركاء : مفعول يتبع ، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفا ، والأصل : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة ، إنما هي أسماء لا مسميات لها ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون ، وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه ، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى : أيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؟ ويكون على هذا الوجه شركاء : منصوبا بيدعون ، والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم. ويجوز أن تكون ما : موصولة معطوفة على من في السّموات ؛ أي لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين من دون الله شركاء ؛ والمعنى : أنّ الله مالك لمعبوداتهم ؛ لكونها من جملة من في السّموات ومن في الأرض. ثم زاد سبحانه في تأكيد الردّ عليهم ؛ والدفع لأقوالهم فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنا ، والظن لا يغني من الحق شيئا (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : يقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا وكذبا بحتا ، وقد تقدّمت هذه الآية في الأنعام. ثم ذكر سبحانه طرفا من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : جعل لعباده الزمان منقسما إلى قسمين ؛ أحدهما مظلم ، وهو الليل ، لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتّعب ، ويريحون أنفسهم عن الكدّ والكسب ؛ والآخر مبصر ، لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم ، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير ، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير ، وجعله سبحانه للنهار مبصرا : مجاز. والمعنى : أنه مبصر صاحبه ، كقولهم : نهاره صائم ، والإشارة بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى الجعل المذكور (لَآياتٍ) عجيبة كثيرة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبّهة على الآيات التكوينية مما ذكره سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره ، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون ، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان. قوله : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها ، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدا ، فردّ ذلك عليهم بقوله (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) فنزّه جل وعلا نفسه عما نسبوه إليه من هذا الباطل البيّن ، وبين أنه غنيّ عن ذلك ، وأن الولد إنما يطلب للحاجة ، والغنيّ المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها ، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد ، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه ، والأزليّ القديم لا يفتقر إلى ذلك. وقد تقدّم تفسير الآية في البقرة. ثم بالغ في الردّ عليهم بما هو كالبرهان ، فقال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وإذا كان الكل له ؛ وفي ملكه ؛ فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولدا له ؛ للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوّة. ثم زيف دعواهم الباطلة ، وبين أنها بلا دليل ، فقال : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تقولونه ، و (مِنْ) في : (مِنْ سُلْطانٍ) زائدة للتأكيد ، والجار والمجرور في (بِهذا) متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة
__________________
(١). الأنبياء : ٢٢.