(٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))
قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التّزييف الأوّل ، أي : أخبروني إن أتاكم عذاب الله (بَياتاً) أي : وقت بيات ، والمراد به : الوقت الذي يبيتون فيه ، وينامون ويغفلون عن التّحرّز ، والبيات : بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم ، وهو منصب على الظرفية ، وكذلك : نهارا ، أي : وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب ، والضمير في : منه ، راجع إلى العذاب ؛ وقيل : راجع إلى الله ، والاستفهام في (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) للإنكار المتضمن للنهي ، كما في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١) ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم : أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب ، وتأباه الطبائع ، فما المقتضي لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط ، بحذف الفاء ؛ وقيل : إن الجواب محذوف ، والمعنى : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه ؛ وقيل : إن الجواب قوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) وتكون جملة : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضا ، والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. والأوّل أولى. وإنما قال : يستعجل منه المجرمون ، ولم يقل يستعجلون منه ، للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام ، لأن من حقّ المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه ، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوهم أمرا إذا طلبه : ما ذا تجني على نفسك؟ وحكى النحاس عن الزجاج أن الضمير في (مِنْهُ) إن عاد إلى العذاب كان لك في (ما ذا) تقديران : أحدهما أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، وهو خبر ما ، والعائد محذوف. والتقدير الآخر : أن يكون (ما ذا) اسما واحدا في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : ما بعده ، وإن جعل الضمير في (مِنْهُ) عائدا إلى الله تعالى كان (ما ذا) شيئا واحدا في موضع نصب بيستعجل ، والمعنى : أيّ شيء يستعجل منه المجرمون ، أي : من الله عزوجل ، ودخول الهمزة الاستفهامية في (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) على ثم كدخولها على الواو والفاء ، وهي لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب ، وهو يتضمّن معنى التهويل عليهم ، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته ، مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النّفع والدّفع ، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به ، وجيء بكلمة ثم التي للتراخي : دلالة على الاستبعاد ، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد : دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم ، والمعنى : أبعد ما وقع عذاب الله عليكم ، وحلّ بكم سخطه وانتقامه ، آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئا؟ ولا يدفع عنكم ضرّا ؛ وقيل : إن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به ، وإنها من قول الملائكة : استهزاء بهم ، وإزراء عليهم. والأول أولى. وقيل : إن ثم هاهنا هي بفتح الثاء فتكون ظرفية بمعنى هناك. والأوّل أولى. قوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) قيل : هو استئناف بتقدير القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقوله لهم ، أي : قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب : الآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون؟ أي : بالعذاب ، تكذيبا منكم واستهزاء ، لأن استعجالهم كان على جهة التّكذيب
__________________
(١). النحل : ١.