فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها ، وجواب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : محذوف أيضا ، والتقدير : أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة ؛ وقيل : إن جواب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) هو قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلىاللهعليهوسلم تعذيبهم في الآخرة ، وقيل : العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة ، والأصل : أريناك أو توفيناك ، وفيه نظر ، فإن إراءته صلىاللهعليهوسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة. وحاصل معنى هذه الآية : إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. وقد أراه الله سبحانه قتلهم ، وأسرهم ، وذلهم ، وذهاب عزّهم ، وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن ، فلله الحمد. قوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين : للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء ، أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة ، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم ، كما ذكره النيسابوري (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الخالية في وقت من الأوقات (رَسُولٌ) يرسله الله إليهم ، ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) إليهم ، وبلغهم ما أرسله الله به ، فكذبوه جميعا (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : بين الأمة ورسولها (بِالْقِسْطِ) أي : العدل ، فنجا الرسول ، وهلك المكذبون له ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ويجوز أن يراد بالضمير في : بينهم ، الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر ، فيهلك المكذبون ، وينجو المصدقون (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك القضاء ، فلا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجّة ، ومنه قوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (١) وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٢) والمراد : المبالغة في إظهار العدل والنّصفة بين العباد ، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار ، وذلك أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) والاستفهام منهم للإنكار ، والاستبعاد ، وللقدح في النبوّة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطابا منهم للنبيّ صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله ، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة : جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم ، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ، ويقطع اللجاج ، فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضرّ عنها ، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري ، وقدّم الضرّ ، لأن السياق : لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) منقطع ، كما ذكره أئمة التفسير ، أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كان ، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضرا أو نفعا. وفي هذه أعظم واعظ ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلىاللهعليهوسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه. فإن هذا مقام ربّ العالمين ؛ الذي خلق الأنبياء ، والصالحين ، وجميع المخلوقين ، ورزقهم ، وأحياهم ، ويميتهم ، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء ، أو ملك من الملائكة ، أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه ، غير قادر عليه ،
__________________
(١). الزمر : ٦٩.
(٢). النساء : ٤١.