الذين فسقوا ، أي : خرجوا من الحقّ إلى الباطل ، وتمرّدوا في كفرهم عنادا ومكابرة ، وجملة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من الكلمة. قاله الزّجّاج ؛ أي : حقّت عليهم هذه الكلمة ، وهي عدم إيمانهم ، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام ، أي : لأنهم لا يؤمنون. وقال الفرّاء : إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف ، وقد قرأ نافع وابن عامر كلمات ربك بالجمع. وقرأ الباقون بالإفراد. قوله (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين ، أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقولها لهم ، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد ، لكنه لما كان أمرا ظاهرا بينا ، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ، ولم يكابر كان كالمسلّم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره ، وهذا القول الذي قاله النبي صلىاللهعليهوسلم عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب ، إما : على طريق التلقين لهم ، وتعريفهم كيف يجيبون ، وإرشادهم إلى ما يقولون ، وإما : لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ، ومعرفة ما لديه ، وإما : لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصّواب في هذا الجواب فرارا منهم عن أن تلزمهم الحجّة ، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحقّ ، ومعنى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تؤفكون؟ أي : تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره. ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجّة سادسة فقال : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) والاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة ، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيرا في القرآن كقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (١) وقوله : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) وقوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ـ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) وفعل الهداية يجيء متعديا باللام وإلى ، وهما : بمعنى واحد. روي ذلك عن الزّجّاج. والمعنى : قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ، ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا ، فقل لهم : الله يهدي للحق دون غيره ، ودليل ذلك ما تقدّم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا ، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحقّ هي : بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات ، وإرساله للرسل ، وإنزاله للكتب ، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار ، والاستفهام في قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) للتقرير ، وإلزام الحجّة.
وقد اختلف القراء في (لا يَهِدِّي) فقرأ أهل المدينة إلا نافعا يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين. قال النحّاس : والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد : لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمى هذا اختلاسا. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدي ، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش مثل قراءة ابن كثير إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا : لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر عن عاصم يهدي بكسر الياء والهاء
__________________
(١). الشعراء : ٧٨.
(٢). طه : ٥٠.
(٣). الأعلى : ٢ و ٣.