في إنجاز الوعد (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) في أقواله وأفعاله ، ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت الرّحمة إجمالا ، باعتبار الرحمة في الدار الآخرة ، فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير ؛ ومعنى : جري الأنهار من تحت الجنات ، أنها تجري تحت أشجارها وغرفها ، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي : منازل يسكنون فيها من الدرّ والياقوت ، و (جَنَّاتِ عَدْنٍ) يقال : عدن بالمكان : إذا أقام به ، ومنه المعدن ؛ وقيل : هي أعلى الجنة ، وقيل : أوسطها ، وقيل : قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبيّ ، أو صدّيق ، أو شهيد. وصف الجنة بأوصاف : الأوّل : جري الأنهار من تحتها ، والثاني : أنهم فيها خالدون ، والثالث : طيب مساكنها ، والرابع : أنها دار عدن ، أي : إقامة غير منقطعة ، هذا على ما هو معنى عدن لغة ؛ وقيل : هو علم ، والتنكير في رضوان : للتحقير ، أي : (وَرِضْوانٌ) حقير يسير (مِنْ) رضوان (اللهِ أَكْبَرُ) من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه ، وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه ؛ وأن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية ، وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية ، اللهمّ ارض عنا رضا لا يشوبه سخط ، ولا يكدّره نكد ، يا من بيده الخير كله دقه وجله ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) دون كل فوز مما يعدّه الناس فوزا.
وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) قال : يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله ، والنفقات في سبيل الله ، وما كان من طاعة الله (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والكفر قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الله ، كتبها الله على المؤمنين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال : إخاؤهم في الله ، يتحابون بجلال الله والولاية لله ، وقد ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قالا : على الخبير سقطت ، سألنا عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «قصر من لؤلؤة في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام ، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قال : معدن الرجل : الذي يكون فيه : وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : معدنهم فيها أبدا. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) يعني : إذا أخبروا أن الله عنهم راض ، فهو أكبر عندهم من التّحف والتّسنيم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك ،