والنصراني يقول هو نصراني ، والصابئ ، والمشرك يقول هو مشرك (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير ، أي : بطلت ، ولم يبق لها أثر (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) وفي هذه الجملة الاسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها ، ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (وَلَمْ يَخْشَ) أحدا (إِلَّا اللهَ) فمن كان جامعا بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد ، لا من كان خاليا منها أو من بعضها ، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية ؛ تنبيها بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه ؛ مما افترضه الله على عباده ، لأن كل ذلك من لوازم الإيمان ، وقد تقدّم الكلام في وجه جمع المساجد ، وفي بيان ماهية العمارة ، ومن جوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز ؛ حمل العمارة هنا عليهما ، وفي قوله : (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم ، فإنّ الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوّا فقط ، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات ؛ وقيل : عسى من الله واجبة ؛ وقيل : هي بمعنى خليق ، أي : فخليق أن يكونوا من المهتدين ؛ وقيل : إن الرجاء راجع إلى العباد ، والاستفهام في (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) للإنكار ، والسقاية والعمارة : مصدران كالسعاية والحماية ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد ، أو أهلهما (كَمَنْ آمَنَ) حتى يتفق الموضوع والمحمول ، أو يكون التقدير في الخبر ، أي : جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كعمل من آمن ، أو كإيمان من آمن ، وقرأ ابن أبي وجرة السعدي وابن الزبير وسعيد بن جبير «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» ، جمع ساق وعامر ، وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف ، والمعنى : أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير ، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله ، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين ، فأنكر الله عليهم ذلك ، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم ، وعدم استوائهم فقال : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي : لا تساوي تلك الطّائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام ، هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله ، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدّعيها المشركون ، أي : إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين ، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون ، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك ، لا يستحقون الهداية من الله سبحانه ، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول ، ثم صرّح بالفريق الفاضل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره ، أي : الجامعون بين الإيمان والهجرة ، والجهاد بالأموال والأنفس (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحبطة الباطلة ، وفي قوله : (عِنْدَ اللهِ) تشريف عظيم للمؤمنين ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المتصفين بالصفات المذكورة (هُمُ الْفائِزُونَ) أي : المختصون بالفوز عند الله ، ثم فسر الفوز بقوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات