مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم ، والابتلاء : الامتحان والاختبار (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ) معطوف على إذ يعدون معمول لعامله داخل في حكمه ، والأمة : الجماعة ، أي : قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدّين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة ، وإقلاعهم عن المعصية (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي : مستأمل لهم بالعقوبة (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بما انتهكوا من الحرمة ، وفعلوا من المعصية ؛ وقيل : إن الجماعة القائلة لم تعظون قوما؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت ، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم. والمعنى : إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي : قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون ، وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأوّل ، أو الفاعلين على الوجه الثاني (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف (مَعْذِرَةً) بالنصب ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، وقرأ الباقون بالرفع. قال الكسائي : ونصبه على وجهين : أحدهما على المصدر ، والثاني : على تقدير فعلنا ذلك معذرة ، أي : لأجل المعذرة. والرفع على تقدير مبتدأ ، أي : موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا ، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية.
قال جمهور المفسّرين : إنّ بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق : فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفا ، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص ، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص ، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) يريدون : الفرقة العاصية (اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) قالوا ذلك على غلبة الظنّ لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك ، فقالت الناهية : موعظتنا معذرة إلى الله ، ولعلهم يتقون ، ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية ، وعاصية ، لقال : لعلكم تتقون. قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي : لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي : الذين فعلوا النهي ، ولم يتركوه (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم العصاة المعتدون في السبت (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي : شديد ، من بؤس الشيء يبؤس بأسا إذا اشتد ، وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي : بسبب فسقهم ، والجار والمجرور متعلق بأخذنا (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي : تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه تمرّدا وتكبرا (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) أي : أمرناهم أمرا كونيا لا أمرا قوليا ، أي : مسخناهم قردة ، قيل إنه سبحانه عذبهم أوّلا بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم قردة ؛ وقيل إن قوله : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا) تكرير لقوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) للتأكيد والتقرير ، وأن المسخ هو العذاب البئيس ، والخاسئ : الصاغر الذليل أو المباعد المطرود ، يقال : خسأته فخسئ ، أي : باعدته فتباعد. واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فإن كانت الطوائف منهم ثلاثا كما تقدّم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل