وجملة (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) استئنافية كما تقدّم في الجمل السابقة ، أي : أمهلني إلى يوم البعث ، وكأنه طلب أن لا يموت ، لأن يوم البعث لا موت بعده ، والضمير في (يُبْعَثُونَ) لآدم وذريته ، فأجابه الله بقوله : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي : الممهلين إلى ذلك اليوم ، ثم تعاقب بما قضاه الله لك ، وأنزله بك في دركات النار. قيل : الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه ، وجملة (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) مستأنفة كالجمل السابقة واردة جوابا لسؤال مقدّر ، والباء في (فَبِما) للسببية ، والفاء : لترتيب الجملة على ما قبلها ؛ وقيل : الباء للقسم كقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) أي فبإغوائك إياي (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) والإغواء : الإيقاع في الغيّ ؛ وقيل : الباء بمعنى اللام ، وقيل : بمعنى مع. والمعنى : فمع إغوائك إياي ، وقيل ما في (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) للاستفهام. والمعنى : فبأي شيء أغويتني؟ والأوّل أولى. ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سببا لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له ، حتى اختار الضلالة على الهدى ؛ وقيل : أراد به اللعنة التي لعنه الله ، أي : فبما لعنتني فأهلكتني لأقعدن لهم ، ومنه : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٢) أي : هلاكا. وقال ابن الأعرابي : يقال غوى الرجل يغوي غيا : إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ، ومنه (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٣) أي : فسد عيشه في الجنة (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي لأجهدنّ في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم. والصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الجنة. وانتصابه على الظرفية ، أي : في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه : ضرب زيد الظهر والبطن ، واللام في (لَأَقْعُدَنَ) لام القسم ، والباء (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) متعلقة بفعل القسم المحذوف ، أي : فبما أغويتني أقسم لأقعدنّ. قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوّه ، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت ، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن ، وإلى الأخريين بعن ، لأنّ الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها إلى ما يأتيه بكلية بدنه ، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا ، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء ، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاورة ، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة ؛ وقيل المراد (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من آخرتهم (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) من جهة حسناتهم (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من جهة سيئاتهم ، واستحسنه النحاس. قوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي : وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم ، وهذا قاله على الظنّ ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٤) ، وقيل : إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله ، وعبر بالشكر عن الطاعة ، أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء ، وجملة (قالَ اخْرُجْ مِنْها) استئناف كالجمل التي قبلها ، أي : من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدّم (مَذْؤُماً) أي مذموما من ذأمه إذا ذمه يقال ذأمته وذممته بمعنى. وقرأ الأعمش «مذموما». وقرأ الزهري (مَذْؤُماً) بغير همزة ؛ وقيل : المذءوم : المنفي ، والمدحور : المطرود. قوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم ، وجوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)
__________________
(١). ص : ٨٢.
(٢). مريم : ٥٩.
(٣). طه : ١٢١.
(٤). سبأ : ٢٠.