فإذا كان هذا ما وصفنا دلّ أن ليس على الله أن يفعل الأصلح لهم فى الدين (١) ، وبالله التوفيق.
__________________
(١) ذهب أهل السنة إلى : أن الأصلح للعبد غير واجب على الله تعالى ، فيجوز ترك هذا الأصلح والعدول عنه إلى غيره إذا كانت هناك حكمة تقتضى هذا الترك كما هو مذهب الماتريدية القائلين : إن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الحكمة ؛ لأن خلو الفعل عن مطلق الحكمة عبث يتنزه الله تعالى عنه ، فمراعاة الحكمة لا بد منها عندهم لكنهم يتأدبون مع الله تعالى فلا يعبرون عن مرادهم بقولهم (يجب) كما أنهم لا يقولون بوجوب مراعاة حكم خاصة.
أما الأشاعرة فيقولون : يجوز لله ـ سبحانه وتعالى ـ ترك الأصلح مطلقا ولو لم تقتض الحكمة تركه لأن الله لا يجب عليه شىء ، لا حكم خاصة ، ولا مطلق الحكم ، بخلاف الماتريدية يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.
فإن قيل : كيف يقول الماتريدية ذلك مع أنهم صرحوا أيضا بأن الله لا يجب عليه شىء.
فالجواب : أنهم إنما قالوا ذلك لأنهم ينفون الوجوب فى الخصوصيات من اللطف والأصلح للعبد والثواب والعقاب ، فلا ينافى أنهم يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.
هذا ولأهل السنة خمسة أدلة يستدلون بها على مذهبهم من عدم وجوب الأصلح على الله عزوجل :
الدليل الأول : أن الأصلح ليس بواجب على الله ، وإلا لما خلق الكافر الفقير المعذب فى الدنيا والآخرة ، قال الشيخ صالح شرف :
ونوقش هذا الدليل : بأن قولهم «الفقير المعذب فى الدنيا» لا حاجة إليه فى الدليل لأن الخصم لا يقول بوجوب الأصلح للعبد فى الدنيا.
ثم إن هذا الدليل لا يلزم جمهور البصريين من المعتزلة ؛ لأن مذهبهم أن ما فعله الله عزوجل بالكافر من خلقه وبقائه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين هو الأصلح له فى دينه ، لكن هذا الدليل يلزم الجبائى فقط ؛ لأنه يقول : إن الأصلح للكافر عدم خلقه أو إماتته وإن شئت إلزام جمهور البصريين فقل فى الدليل : لو كان الأصلح واجبا على الله لما أمات الطفل أو أجن العاقل.
الدليل الثانى : أن الأصلح لو كان واجبا على الله لترتب عليه ألا يكون لله ـ عزوجل ـ منة على العباد ولما استحق الشكر على الهداية وإفاضة أنواع الخيرات ، لكن هذا باطل لأن الله ـ عزوجل ـ قد من على المؤمنين بقوله (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤] وقال أيضا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) [الحجرات : ١٧] وقال (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ؛ فلما ثبتت المنة علينا من الله عزوجل وبان أنه يستحق الشكر بطل القول بوجوب الأصلح عليه تعالى ؛ لأنه لو كان واجبا عليه ، لما أمكنه أن يتركه ، والفاعل لما لا يقدر على تركه لا يستحق أن يشكر عليه.
وقد نوقش هذا الدليل بما يلى :
أولا : أن قوله : «وإفاضة أنواع الخيرات» لا حاجة إلى ذكره فى الدليل لأن هذا متعلق بالدنيا ، وأجيب عن هذا بأن الزيادة على الدعوى لا تضر إنما المضر نقص الدليل. ونوقش الدليل ثانيا بأن المنة واستحقاق الشكر لا ينافيان وجوب فعل الأصلح فيكون فعل الأصلح واجبا على الله ، ويمن ويشكر عليه ، بدليل أن الوالد شفقته على أولاده واجبة لا يمكنه تركها ويمن عليهم ويستحق منهم الشكر.
وأجيب عن ذلك بأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الوالد له حالتان : شفقة راجعة إلى أصل طبعه وجبلته لا يمكن تركها ، وشفقة راجعة إلى اختياره يمكنه تركها ، وهو لا يمن على ولده بالنوع الأول ولا يستحق شكرا على حصول هذه الشفقة الجبلية منه لأنها لازمة لذاته لا يمكنه تركها ، ـ