وعن طريق هذا المثل الذى يقوم على التشابه بين قصتين ، وحالتين ، دعوة لأولئك الناس إلى استخدام عقولهم فى التفكير الذى يقوم على الموازنة والتمييز بين شيئين ليختار العاقل الصالح من الأمر ، وإعلامهم بأن العقل والفكر علامتان للإنسان الجديد الذى يدين بدين الإسلام ، فلا خضوع لتقاليد ، ولا إرهاب لسلطة مهما كانت مراكزها ، ولا بجنس أو لون ، وإنما الناس جميعا إخوة سواسية ، (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣].
فى هذه البيئة الصخرية الحجرية فى طبيعتها ، وفكر أصحابها ، وتقاليد أسرها وعائلاتها ، وتكوين مجتمعاتها ، كان من الحكمة الإلهية أن يكثر قرع الآذان بتلك الدقات الشديدة من الأمثال ؛ لتصل إلى مجامع القلوب ، فتقوم من غفوتها ، وتستيقظ من سباتها العميق الذى يحجب عنها الرؤية لذلك النور الإلهى الذى بدد الظلام ، وأزال الغشاوة عما لحق بالصدور والقلوب من الشرك بالله ، والانتماء للباطل بصوره وأشكاله.
وإذا كانت الفترة الزمنية الأولى فى بدء الدعوة قد امتدت إلى ثلاث عشرة سنة ، مما أتاح للرسول ، عليه الصلاة والسلام ، أن يعمل على نشر الدعوة بين ربوع مكة وما جاورها ، وأن يهيئ أولئك الرجال الذين اتبعوه وآمنوا بالقرآن الكريم ليحملوا رسالته فى كل مكان ، فإن المجتمع الجديد الذى ستنتقل إليه الدعوة تختلف فيه الصورة عن المجتمع المكى ، فهذا المجتمع المدنى يقوم على الزراعة ، وطبيعته تختلف عن طبيعة مكة ، فالأرض الخصبة تعطى ، وتنبت الخير والرزق ، وتنعكس تلك الطبيعة على أهلها برا ، وسماحة ، ولينا ، واستجابة لدعوة الخير من أول نداء وجهه الرسول إليهم فى بيعاتهم التى بايعوا فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فهذا المجتمع تفتح ذهنه لهذا الفكر الوافد ، وبدت ملامح اليقظة فى حركاته بفعل تأثره بغيره من المجتمعات الأخرى التى اختلطت به ، وتميزت بفكرها ، وكتبها السماوية ، فكان الأمر سهلا ، لا يحتاج إلى كبير معاناة فى توصيل الحقائق المباشرة التى تبنى الحياة بكل اتجاهاتها المختلفة.
فليس فيها ذلك الفكر المتسلط ، ولا رهبة أصحاب السلطة الدينية ، كما فى مكة ، ولا تلك التقاليد البالية التى تعوق الفكر الجديد عن الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.
وكان القرب من اليهود فى ذلك الوقت سبيلا إلى معرفة مظاهرهم الدينية ،