والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك ، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله ، متلاعبا بأوقاته ، عابثا بعمره الذي هو رأس ماله ؛ وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة ، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف نراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان. وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ ، وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة ، وطرائق متباينة فضلا عن المقامين ، فضلا عن المقامات ، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا ، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين ، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليهالسلام ، فإذا قال متكلف : كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا : لا كيف.
فدع عنك نهبا صيح في حجراته |
|
وهات حديثا ما حديث الرواحل |
قوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهمالسلام ومعناه عبد الله ، لأن إسرا في لغتهم : هو العبد وإيل هو الله ، قيل : إن له اسمين ، وقيل : إسرائيل لقب له ، وهو اسم عجمي غير منصرف ، وفيه سبع لغات : إسرائيل بزنة إبراهيم ، وإسرائيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ عن ورش ، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز ، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر ، وقرأ الحسن من غير همز ولا مدّ وإسرائيل بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة ، وتميم يقولون إسرائين. والذكر هو ضد الإنصات ، وجعله بعض أهل اللغة مشتركا بين ذكر القلب واللسان. وقال الكسائي : ما كان بالقلب فهو مضموم الذال ، وما كان باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري : والمعنى في الآية : اذكروا شكر نعمتي ، فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة ، وهي اسم جنس ، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمنّ والسلوى ، وأخرج لهم الماء من الحجر ، ونجّاهم من آل فرعون وغير ذلك. والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل هو المذكور في قوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (١) وقيل : هو ما في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٢) وقيل هو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٣) وقال الزجّاج : هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : هو أداء الفرائض ، ولا مانع من حمله على جميع ذلك. ومعنى قوله : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي بما ضمنت لكم من الجزاء. والرهب والرهبة : الخوف ، ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٤) وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيدا ضربته (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) كان أوكد في إفادة الاختصاص ، ولهذا قال صاحب الكشاف : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد ، وسقطت الياء من قوله (فَارْهَبُونِ) لأنها رأس آية و (مُصَدِّقاً) حال من ما في قوله : (بِما أَنْزَلْتُ) أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي أنزلته.
__________________
(١). البقرة : ٦٣.
(٢). المائدة : ١٢.
(٣). آل عمران : ١٨٧.
(٤). انظر ص : ٢٧.