فيكون الاستثناء على هذا منقطعا. واستدلوا على هذا بقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) وبقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٢) والجن غير الملائكة ، وأجاب الأوّلون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة ، لما سبق في علم الله من شقائه عدلا منه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (٣) وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة ، وأيضا على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلا تغليبا للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم. ومعنى (أَبى) امتنع من فعل ما أمر به. والاستكبار : الاستعظام للنفس ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلىاللهعليهوسلم «أنّ الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» وفي رواية «غمص» بالصاد المهملة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي من جنسهم. قيل إنّ «كان» هنا بمعنى صار. وقال ابن فورك : إنه خطأ ترده الأصول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت السجدة لآدم والطاعة لله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم. وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال : إن الله جعل آدم كالكعبة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال : كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ، ثم أبلس بعد. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : إنما سمي إبليس لأنّ الله أبلسه من الخير كله. أي آيسه منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن الأنباري عنه قال : كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون جنا. وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، عنه قال : كان إبليس من خزّان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا. وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله أمر آدم بالسّجود فسجد ، فقال : لك الجنّة ولمن سجد من ولدك ؛ وأمر إبليس بالسّجود فأبى أن يسجد ، فقال : لك النّار ولمن أبى من ولدك أن يسجد». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قال : جعله الله كافرا لا يستطيع أن يؤمن. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظيّ قال : ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة ، وعمل بعمل الملائكة فصيّره إلى ما ابتدئ إليه خلقه من الكفر ، قال الله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))
(اسْكُنْ) أي اتخذ الجنة مسكنا وهو محل السكون ، وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله :
__________________
(١). التحريم : ٦.
(٢). الكهف : ٥٠.
(٣). الأنبياء : ٢٣.