التفريط : غلو اليهود فيه عليهالسلام حتى جعلوه لغير رشدة (١) ؛ وما أحسن قول الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد |
|
كلا طرفي الأمور ذميم |
(وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا : الباطل ، كقول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) المسيح : مبتدأ ، وعيسى : بدل منه ، وابن مريم : صفة لعيسى ، ورسول الله : الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان ، والجملة تعليل للنهي ، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله : (وَكَلِمَتُهُ) عطف على رسول الله ، و (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) حال ، أي : كوّنه بقوله : كن ؛ فكان بشرا من غير أب ، وقيل : (وَكَلِمَتُهُ) بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) (٢) وقيل : الكلمة هاهنا بمعنى الآية ، ومنه : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) (٣) ، وقوله : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٤). قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : أرسل جبريل ؛ فنفخ في درع مريم ؛ فحملت بإذن الله ؛ وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى ؛ وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة : روحا ويضاف إلى الله فيقال : هذا روح من الله ، أي : من خلقه ، كما يقال في النعمة : إنها من الله ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : من خلقه ، كما قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٥). أي من خلقه ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : رحمة منه ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : برهان منه ، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه. وقوله : (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة لروح ، أي : كائنة منه ، وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل : لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : بأنه سبحانه إله واحد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم ، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) ارتفاع ثلاثة : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، قال الزجاج : أي : لا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، وقال الفراء وأبو عبيد : أي : لا تقولوا هم ثلاثة كقوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) (٦) وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا هو ثالث ثلاثة ، فحذف المبتدأ والمضاف ، والنصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون بالثلاثة : الثلاثة أقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم ، ويعنون بالأقانيم : أقنوم الوجود ، وأقنوم الحياة ، وأقنوم العلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح. وقيل : المراد بالآلهة الثلاثة : الله سبحانه وتعالى ، ومريم ، والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا.
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب
__________________
(١). يقال ولد فلان لغير رشدة : «لغيّة وزنية» (لسان العرب)
(٢). آل عمران : ٤٥.
(٣). التحريم : ١٢.
(٤). لقمان : ٢٧.
(٥). الجاثية : ١٣.
(٦). الكهف : ٢٢.