وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة ، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي ، من نوم أو سهو أو نحوهما. قوله : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي : لا تضعفوا في طلبهم ، وأظهروا القوّة والجلد. قوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) تعليل للنهي المذكور قبله ، أي : ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصا بكم ، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم ، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب ، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم ، وهي : أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم ، فأنتم أحقّ بالصبر منهم ، وأولى بعدم الضعف منهم ، فإن أنفسكم قوية ، لأنها ترى الموت مغنما ، وهم يرونه مغرما. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (١) وقيل : إن الرجاء هنا بمعنى الخوف ، لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله ، فلا يخلو من خوف ما يرجو. وقال الفراء والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع النفي ، كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (٢) أي : لا تخافون له عظمة. وقرأ عبد الرحمن الأعرج : (إِنْ تَكُونُوا) بفتح الهمزة ، أي : لأن تكونوا ، وقرأ منصور بن المعتمر : تئلمون ، بكسر التاء ، ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله.
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) قال : بالليل والنهار ، في البرّ والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسرّ والعلانية ، وعلى كل حال. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود : أنه بلغه أن قوما يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، فقال : إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائما صلى قاعدا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) قال : إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) قال : أتموها. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يعني مفروضا. وأخرج ابن جرير عنه قال : الموقوت الواجب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا تَهِنُوا) قال : ولا تضعفوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (تَأْلَمُونَ) قال : توجعون (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) قال : ترجون الخير.
(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))
قوله : (بِما أَراكَ اللهُ) إما بوحي ، أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به ، وليس المراد هنا
__________________
(١). آل عمران : ١٤٠.
(٢). نوح : ١٣.