(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم ، والإطماع من الله عزوجل واجب ، فهو وعد منه سبحانه ، ووعده كائن لا محالة (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي : أشدّ صولة ، وأعظم سلطانا (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي : عقوبة ، يقال : نكلت بالرجل تنكيلا : من النكال ، وهو العذاب. والمنكل : الشيء الذي ينكل بالإنسان (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما : من الشفع ، وهو الزوج ، ومنه : الشفيع ، لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا ، ومنه ناقة شفوع : إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شفيع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع : ضمّ واحد إلى واحد. والشفعة : ضم ملك الشريك إلى ملكك ، فالشفاعة : ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع ، واتصال منفعة إلى المشفوع له. والشفاعة الحسنة : هي في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة : في المعاصي ، فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها : أي من أجرها ، ومن شفع في الشر ـ كمن يسعى بالنميمة والغيبة ـ كان له كفل منها ، أي : نصيب من وزرها. والكفل : الوزر والإثم ، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط ؛ يقال : اكتفلت البعير : إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه ، لأنه لم يستعمل الظهر كله ، بل استعمل نصيبا منه ، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ. ومن استعماله في الخير قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) (١). (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي : مقتدرا ، قاله الكسائي. وقال الفراء : المقيت : الذي يعطي كل إنسان قوته ، يقال : قتّه ، أقوته ، قوتا ، وأقتّه ، أقيته ، إقاتة ، فأنا قائت ، ومقيت ، وحكى الكسائي : أقات يقيت. وقال أبو عبيدة : المقيت : الحافظ. قال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى ، لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه : مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال ابن فارس في المجمل : المقيت : المقتدر. والمقيت : الحافظ والشاهد. وأما قول الشاعر :
ألي الفضل أم عليّ إذا حو |
|
سبت إنّي على الحساب مقيت |
فقال ابن جرير الطبري : إنه من غير هذا المعنى. قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) التحية : تفعلة من حييت ، والأصل تحيية ، مثل : ترضية وتسمية ، فأدغموا الياء في الياء ، وأصلها : الدعاء بالحياة. والتحية : السلام ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، ومثله قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) (٢) وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين ، وروي عن مالك : أن المراد بالتحية هنا : تشميت العاطس. وقال أصحاب أبي حنيفة ، التحية هنا : الهدية ، لقوله : (أَوْ رُدُّوها) ولا يمكن ردّ السلام بعينه ، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه. والمراد بقوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) : أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية ، فإذا قال المبتدئ : السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا زاد المبتدئ لفظا ، زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظا أو ألفاظا نحو : وبركاته ومرضاته وتحياته.
قال القرطبي : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، وردّه فريضة ، لقوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أولا؟ فذهب مالك والشافعي إلى
__________________
(١). الحديد : ٢٨.
(٢). المجادلة : ٨.