لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق ، أمر الناس بطاعتهم هاهنا ، وطاعة الله عزوجل هي : امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم هي : فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر : هم الأئمة ، والسلاطين ، والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر : هم أهل القرآن والعلم ، وبه قال مالك والضحاك ، وروي عن مجاهد : أنهم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن كيسان : هم أهل العقل والرأي ، والراجح : القول الأوّل. قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) المنازعة : المجاذبة ، والنزع : الجذب ، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها ، والمراد : الاختلاف والمجادلة ، وظاهر قوله : (فِي شَيْءٍ) يتناول أمور الدين والدنيا ، ولكنه لما قال : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا ، والردّ إلى الله : هو الردّ إلى كتابه العزيز ، والردّ إلى الرسول : هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته فالردّ إليه : سؤاله ، هذا معنى الرد إليهما ؛ وقيل : معنى الردّ : أن يقولوا : الله أعلم ، وهو قول ساقط ، وتفسير بارد ، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه دليل : على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين ، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الردّ المأمور به (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : مرجعا ، من الأوّل : آل ، يؤول إلى كذا ، أي : صار إليه ؛ والمعنى : أن ذلك الردّ خير لكم وأحسن مرجعا ترجعون إليه. ويجوز أن يكون المعنى : أن الردّ أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع.
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي ، إذ بعثه النبي صلىاللهعليهوسلم في سرية ، وقصته معروفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : طاعة الله والرسول : اتباع الكتاب والسنة (وَأُولِي الْأَمْرِ) قال : أولي الفقه والعلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة. قال : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) هم الأمراء ، وفي لفظ : هم أمراء السرايا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : أهل العلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن أبي العالية نحوه أيضا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قال : إلى كتاب الله وسنة رسوله. ثم قرأ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ميمون بن مهران في الآية قال : الردّ
__________________
(١). النساء : ٨٣.