أو غيرها ، والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه ، وفيه من الدفع في صدور عبّاد القبور ، والصدّ في وجوههم ، والفت في أعضادهم ، ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢) وقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٣) بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة ، ولمن هي؟ ومن يقوم بها؟. قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم ، وما بين أيديهم وما خلفهم : عبارة عن المتقدّم عليهم والمتأخر عنهم ، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) قد تقدّم معنى الإحاطة ، والعلم هنا : بمعنى المعلوم ، أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته. قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الكرسي : الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته ، كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة ؛ وأخطئوا في ذلك خطأ بينا ، وغلطوا غلطا فاحشا. وقال بعض السلف : إن الكرسي هنا : عبارة عن العلم. قالوا : ومنه قيل للعلماء : الكراسي ، ومنه : الكراسة التي يجمع فيها العلم ، ومنه قول الشاعر :
يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة |
|
كراسيّ بالأحداث حين تنوب |
ورجّح هذا القول ابن جرير الطبري ؛ وقيل : كرسيه : قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ، كما يقال : اجعل لهذا الحائط كرسيا ، أي : ما يعمده ؛ وقيل : إن الكرسيّ هو العرش ، وقيل : هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له ، وقيل : هو عبارة عن الملك. والحق القول الأوّل ، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلّا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات ، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه ، وأنه وسعها ، ولم يضق عنها ؛ لكونه بسيطا واسعا. وقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) معناه : لا يثقله ، يقال : آدني الشيء ، بمعنى : أثقلني وتحملت منه مشقة. وقال الزجاج : يجوز أن يكون الضمير في قوله : (يَؤُدُهُ) لله سبحانه ، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله و (الْعَلِيُ) يراد به : علوّ القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية : وهذه أقوال جهلة مجسمين ، وكان الواجب أن لا تحكى. انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف ، والنزاع فيه كائن بينهم ، والأدلة من الكتاب والسنة معروفة ، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها ، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، ويتبين به الصحيح من الفاسد : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٤) ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٥) وقال الشاعر :
فلمّا علونا واستوينا عليهم |
|
تركناهم صرعى لنسر وكاسر |
والعظيم : بمعنى : عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف : إن الجملة الأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق
__________________
(١). الأنبياء : ٢٨.
(٢). النجم : ٢٦.
(٣). النبأ : ٢٨.
(٤). المؤمنون : ٧١.
(٥). القصص : ٤.