المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير ، وإن هذه المعية التي أوضحها الله بقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب. فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال. وأموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين ، أي : لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات بل هم أحياء ، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم ، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر ، بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر ، وليسوا كذلك في الواقع ، بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر ، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك ، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١). والبلاء أصله : المحنة ، ومعنى نبلوكم : نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء : للتقليل ، أي : بشيء قليل من هذه الأمور. وقرأ الضحّاك بأشياء. والمراد بالخوف : ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره. وبالجوع : المجاعة التي تحصل عند الجذب والقحط. وبنقص الأموال : ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها. وبنقص الأنفس : الموت والقتل في الجهاد. وبنقص الثمرات : ما يصيبها من الآفات ، وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها ـ وقيل : المراد بنقص الثمرات : موت الأولاد. وقوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أمر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يقدر على التبشير. وقد تقدّم معنى البشارة. والصبر أصله الحبس ، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة ، لأن ذلك تسليم ورضا. والمصيبة : واحدة المصائب ، وهي : النكبة التي يتأذّى بها الإنسان وإن صغرت. وقوله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين ، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله ، والاعتراف بالبعث والنشور. ومعنى الصلوات هنا : المغفرة والثناء الحسن ، قاله الزجّاج. وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد. وقال في الكشاف : الصلاة : الرحمة والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله : رأفة ورحمة (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة. انتهى. وقيل المراد بالرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة. و (الْمُهْتَدُونَ) قد تقدّم معناه ، وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم.
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها ، حتى قاموا من عنده وجلّلوه ثوبا ، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة ، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. وأخرج ابن مندة في المعرفة عن ابن عباس قال : قتل عمير بن الحمام ببدر ، وفيه وفي غيره نزلت : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : (فِي سَبِيلِ اللهِ) : في طاعة الله ، في قتال المشركين. وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من
__________________
(١). آل عمران : ١٦٩.