والتقدير : وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه. قال الزجّاج : سفه بمعنى : جهل ، أي : جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة : المعنى : أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد : أن سفه بكسر الفاء يتعدّى كسفه بفتح الفاء مشدّدة. قال الأخفش : (سَفِهَ نَفْسَهُ) أي : فعل بها من السفه ما صار به سفيها ؛ وقيل : إن نفسه منتصب بنزع الخافض ؛ وقيل : هو تمييز ، وهذان ضعيفان جدا. وأما سفه بضم الفاء : فلا يتعدّى ، قاله المبرد وثعلب. والاصطفاء : الاختيار ، أي : اخترناه في الدنيا وجعلناه في الآخرة من الصالحين ، فكيف يرغب عن ملته راغب؟. وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله : (اصْطَفَيْناهُ) أي : اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو : اذكر. قال في الكشاف : كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت ، ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله ، والضمير في قوله : (وَوَصَّى بِها) راجع إلى الملة ، أو إلى الكلمة ، أي : أسلمت لرب العالمين. قال القرطبي : وهو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، أي : قولوا أسلمنا. انتهى. والأوّل أرجح ؛ لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم لكلمة الإسلام ، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم. ووصّى وأوصى : بمعنى ، وقرئ بهما ، وفي مصحف عثمان : وأوصى وهي قراءة أهل الشام والمدينة ، وفي مصحف عبد الله ابن مسعود : (وَوَصَّى) وهي قراءة الباقين (وَيَعْقُوبُ) معطوف على إبراهيم ، أي : وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه. وقرأ عمرو بن فائد الأسواري ، وإسماعيل بن عبد الله المكي بنصب يعقوب ، فيكون داخلا فيمن أوصاه إبراهيم ، قال القشيري : وهو بعيد لأن يعقوب لم يدرك جدّه إبراهيم ؛ وإنما ولد بعد موته. وقوله : (يا بَنِيَ) هو بتقدير : أن. وقد قرأ أبيّ ، وابن مسعود ، والضحّاك بإثباتها. قال الفراء : ألغيت أن لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها ؛ وقيل : إنه على تقدير القول ، أي : قائلا يا بنيّ. روي ذلك عن البصريين. وقوله : (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي : اختاره لكم ، والمراد : ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه ، وهي الملة التي جاء بها محمد صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فيه إيجاز بليغ. والمراد الزموا الإسلام ولا تفارقوه حتى تموتوا. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) قال : رغبت اليهود والنصارى عن ملته ، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله ، تركوا ملة إبراهيم الإسلام ، وبذلك بعث الله نبيه محمدا بملة إبراهيم ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) قال : اخترناه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) قال : وصّاهم بالإسلام ، ووصّى يعقوب بنيه بمثل ذلك. وأخرج الثعلبي عن فضيل بن عياض في قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : محسنون بربكم الظنّ.
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها