سبحانه ، فأمره بأن يقول لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) الحقيقي ، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة ، والكتب المحرّفة ، ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إن اتبع أهواءهم ، وحاول رضاهم ، وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم ، ويحتمل أن يكون تعريضا لأمته ، وتحذيرا لهم أن يواقعوا شيئا من ذلك ، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ، ويطلبوا رضا أهل البدع. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ، ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء ، التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما ؛ فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه لينا ؛ لا يرضيه إلا اتباع بدعته ، والدخول في مداخله ، والوقوع في حبائله ، فإن فعل العالم ذلك ؛ بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله ، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة ، وجهالة بيّنة ورأي منها ، وتقليد على شفا جرف هار ، فهو إذ ذاك ماله من الله من وليّ ولا نصير ، ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة ، وهالك بلا شك ولا شبهة. وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قيل : هم المسلمون ، والكتاب : هو القرآن ، وقيل : من أسلم من أهل الكتاب ، والمراد بقوله : (يَتْلُونَهُ) أنهم يعملون بما فيه ، فيحلّلون حلاله ، ويحرمون حرامه ، فيكون : من تلاه ، يتلوه : إذا اتبعه ، ومنه قوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (١) أي : اتبعها ، كذا قيل ، ويحتمل أن يكون من التلاوة ، أي : يقرءونه حقّ قراءته ، لا يحرفونه ولا يبدّلونه. وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مبتدأ ، وخبره : (يَتْلُونَهُ) أو الخبر قوله : (فَأُولئِكَ) مع ما بعده.
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزل (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) فما ذكرهما حتى توفاه الله. قال السيوطي : هذا مرسل ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعا وقال : هو معضل الإسناد ، ضعيف ، لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : (الْجَحِيمِ) : ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عباس في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ولا يحرّفونه عن مواضعه. وأخرجوا عنه أيضا قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرءوا (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) يقول : اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مرّ بذكر الناس تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) «يتبعونه حق اتباعه» ، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل ؛ قال : لكن معناه صحيح.
__________________
(١). الشمس : ٢.