خالق القوى والقدر ، فمن فهم هذا استغنى عن التطويل ، ومن لم يفهمه فليس
بمتأهل للتحصيل ، ولقد صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث يقول فيما أخرجه عنه الترمذي وحسّنه من حديث أبي
سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه».
ولما كان هذا
العلم بهذه المنزلة الشامخة الأركان ، العالية البنيان ، المرتفعة المكان ، رغبت
إلى الدخول من أبوابه ، ونشطت إلى القعود في محرابه ، والكون من أحزابه ، ووطنت
النفس على سلوك طريقة ، هي بالقبول عند الفحول حقيقة ، وها أنا أوضح لك منارها ،
وأبيّن لك إيرادها وإصدارها فأقول :
إن غالب
المفسرين تفرّقوا فريقين ، وسلكوا طريقين : الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على
مجرّد الرواية ، وقنعوا برفع هذه الراية. والفريق الآخر جرّدوا أنظارهم إلى ما
تقتضيه اللغة العربية ، وما تفيده العلوم الآلية ، ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا ،
وإن جاءوا بها لم يصحّحوا لها أساسا ، وكلا الفريقين قد أصاب ، وأطال وأطاب ، وإن
رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب ، وترك منها ما لا يتمّ بدونه كمال الانتصاب
، فإن ما كان من التفسير ثابتا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كان المصير إليه متعينا ، وتقديمه متحتما ، غير أن
الذي صحّ عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن ، ولا
يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان. وأما ما كان منها ثابتا عن الصحابة رضي
الله عنهم ، فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي
بوجه من الوجوه فهو مقدّم على غيره ، وإن كان من الألفاظ التي لم ينقلها الشرع فهو
كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم. فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة
علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب ، فبالأولى تفاسير من بعدهم من
التابعين وتابعيهم وسائر الأئمة. وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف
على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي ، ومعلوم أن ذلك لا
يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية ، ولا إهمال ما يستفاد من
العلوم التي تتبيّن بها دقائق العربية وأسرارها كعلم المعاني والبيان ، فإن
التفسير بذلك هو تفسير باللغة ، لا تفسير بمحض الرأي المنهيّ عنه. وقد أخرج سعيد
بن منصور في سننه ، وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية ، عن سفيان قال : ليس في
تفسير القرآن اختلاف ، إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا. وأخرج ابن سعد في
الطبقات ، وأبو نعيم في الحلية ، عن أبي قلابة قال : قال أبو الدرداء : لا تفقه كل
الفقه حتى ترى للقرآن وجوها. وأخرج ابن سعد أن عليا قال لابن عباس : اذهب إليهم ـ يعني
الخوارج ـ ولا تخاصمهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ، ولكن خاصمهم بالسنة ؛ فقال له : أنا
أعلم بكتاب الله منهم ، فقال : صدقت ، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه. وأيضا لا يتيسر
في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف ، بل قد يخلو عن ذلك كثير
من القرآن ، ولا اعتبار بما لم يصح كالتفسير بإسناد ضعيف ، ولا بتفسير من ليس بثقة
منهم وإن صحّ إسناده إليه. وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين ، وعدم
الاقتصار على مسلك أحد الفريقين ، وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه ، والمسلك
الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله مع تعرّضي للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما
أمكن واتضح لي وجهه ، وأخذي من بيان المعنى العربي