وقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) هو على ظاهره ، أي : إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده ؛ وقيل : إنه استهزاء منهما ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله ، وفي قولهما : (فَلا تَكْفُرْ) أبلغ إنذار وأعظم تحذير ، أي : أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلّم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد ، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه. وقوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ) فيه ضمير يرجع إلى قوله : (مِنْ أَحَدٍ) قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال : ومثله (كُنْ فَيَكُونُ) وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ، لأنه وإن كان منفيا فهو يتضمن الإيجاب. وقال الفرّاء : هي مردودة على قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أي : يعلمون الناس فيتعلمون ، وقوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سببا لذلك دليل على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحبّ والبغض ، والجمع والفرقة ، والقرب والبعد. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة ، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر وبيّن ما هو الغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ؛ وقيل : ليس للسحر تأثير في نفسه أصلا ، لقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والحق أنه لا تنافي بين قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وبين قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ، ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه. وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم ، وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ، ولا يجلب إليه منفعة ، بل هو ضرر محض ، وخسران بحت ، واللام في قوله : (وَلَقَدْ) جواب قسم محذوف ، وفي قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) للتأكيد و «من» موصولة ، وهي في محل رفع على الابتداء ، والخبر قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وقال الفرّاء : إنها شرطية للمجازاة. وقال الزجّاج : ليس هذا بموضع شرط ، ورجّح أنها موصولة كما ذكرنا. والمراد بالشراء هنا : الاستبدال ، أي : من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله. والخلاق : النصيب عند أهل اللغة ، كذا قال الزجّاج. والمراد بقوله (ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي : باعوها. وقد أثبت لهم العلم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ونفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) واختلفوا في توجيه ذلك ، فقال قطرب والأخفش : إن المراد بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) الشياطين ، والمراد بقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الإنس. وقال الزجّاج : إن الأول للملكين ، وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم : الزيدان قاموا. والثاني المراد به علماء اليهود ، وإنما قال : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لأنهم تركوا العمل بعلمهم. وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي : بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وما جاء به من القرآن (وَاتَّقَوْا) ما وقعوا فيه من السحر والكفر ، واللام في قوله : (لَمَثُوبَةٌ) جواب لو ، والمثوبة : الثواب. وقال الأخفش : إن الجواب محذوف ، والتقدير : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ، فحذف لدلالة قوله : (لَمَثُوبَةٌ) عليه ، وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)