نزول العذاب بهم مباشرة ، إلا أنهم لم يجدوا أحدا ، يدفع عنهم شيئا من هذا العذاب الأليم.
ثم واصلت السورة الكريمة حكاية ما ناجى نوح به ربه ، فقالت : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).
أى : وقال نوح متابعا حديثه مع ربه ، ومناجاته له : يا رب ، لا تترك على الأرض من هؤلاء الكافرين (دَيَّاراً) أى : واحدا يسكن دارا ، أو واحدا منهم يدور في الأرض ويتحرك عليها ، بل خذهم جميعا أخذ عزيز مقتدر.
فقوله (دَيَّاراً) مأخوذ من الدار ، أو الدوران ، وهو التحرك ، والمقصود : لا تذر منهم أحدا أصلا ، بل اقطع دابرهم جميعا.
قالوا : والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام. يقال : ما بالدار ديار. أى : ليس بها أحد ألبتة ، وهو اسم بزنة فيعال.
وقوله (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) تعليل لدعائه عليهم جميعا بالهلاك. أى : يا رب لا تترك منهم أحدا سالما ، بل أهلكهم جميعا لأنك إن تترك منهم أحدا على أرضك بدون إهلاك ، فإن هؤلاء المتروكين من دأبهم ـ كما رأيت منهم زمانا طويلا ـ إضلال عبادك عن طريق الحق.
وقوله : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) زيادة في ذمهم وفي التشنيع عليهم.
والفاجر : هو المتصف بالفجور ، والملازم له ملازمة شديدة ، والفجور : هو الفعل البالغ للنهاية في الفساد والقبح.
والكفار : هو المبالغ في الكفر ، والجحود لنعم الله ـ تعالى ـ.
أى : إنك يا إلهى إن تتركهم بدون إهلاك ، يضلوا عبادك عن كل خير ، وهم فوق ذلك ، لن يلدوا إلا من هو مثلهم في الفجور والكفران لأنهم قد نشّأوا أولادهم على كراهية الحق ، وعلى محبة الباطل.
قال الجمل : فإن قيل : كيف علم نوح أن أولادهم يكفرون؟ أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه ويقول له : احذر هذا ـ أى نوحا ـ فإنه كذاب ، وإن أبى حذرني منه ، فيموت الكبير ، وينشأ الصغير على ذلك. (١) وعلى أية حال فالذي نعتقده أن نوحا ـ عليهالسلام ـ ما دعا عليهم بهذا الدعاء ، وما قال في شأنهم هذا القول ـ وهو واحد من أولى العزم من الرسل ـ إلا بعد أن يئس من
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤١٥.