وقدم ـ سبحانه ـ الجار والمجرور في قوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) لإفادة أن هذا التمني هو محط الإنكار ، وأن الإنسان العاقل هو الذي لا يجرى وراء أمنياته ، وإنما هو الذي يسعى إلى تحقيق ما أمره الله ـ تعالى ـ به من تكاليف.
وقدم ـ سبحانه ـ الآخرة على الأولى ، لأنها الأهم ، إذ نعيمها هو الخالد الباقي ، أما شهوات الدنيا وملذاتها ، فهي مهما كثرت ، زائلة فانية.
ثم بين ـ سبحانه ـ أن الملائكة مع سمو منزلتهم ، وشدة حرصهم على طاعة الله ـ تعالى ـ ، لا يملكون الشفاعة لأحد إلا بإذنه ـ عزوجل ـ فقال : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ، لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى).
و «كم» هنا خبرية بمعنى كثير ، وهي في موضع رفع على الابتداء ، وخبرها جملة ، «لا تغنى شفاعتهم ...» وهي وإن كانت مفردة لفظا ، إلا أنها في معنى الجمع ..
أى : وكثير من الملائكة المقربين لدينا في السموات العلا ، لا تغنى شفاعتهم عندنا شيئا من الأشياء. إلا من بعد أن يأذن الله ـ تعالى ـ لهم فيها ، لمن يشاء أن يشفعوا له ، ويرضى ـ سبحانه ـ عن هذا المشفوع له.
فالآية الكريمة من قبيل ضرب المثل للمشركين ، الذين توهموا أن أصنامهم ستشفع لهم ، وكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : إذا كان الملائكة مع سمو منزلتهم عندنا لا يشفعون إلا بإذننا ، ولمن نرضى عنه ... فكيف وصل بكم الجهل والحمق ـ أيها المشركون ـ إلى توهم أن أصنامكم ـ مع خستها وحقارتها ـ ستشفع لكم عندنا؟.
وقوله : (فِي السَّماواتِ) صفة «لملك» والمقصود بهذه الصفة التشريف والتكريم.
وقوله : (شَيْئاً) التنكير فيه للتقليل والتعميم ، وهو في موقع المفعول المطلق.
أى : لا تغنى شفاعتهم شيئا من الإغناء حتى ولو كان في غاية القلة ..
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ..) (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (.. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢).
وهذه الآيات الكريمة بجانب تيئيسها للكافرين من الحصول على أية شفاعة ، لأنهم ليسوا ممن رضى الله عنهم ، تدعو المؤمنين إلى مواصلة المحافظة على أداء حقوقه ـ سبحانه ـ ،
__________________
(١) سورة سبأ الآية ٢٣.
(٢) سورة الأنبياء الآية ٢٨.