وقوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) يقال : سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه ، وغلبته عليه ، ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه. وأمثالكم جمع مثل ـ بسكون الثاء ـ أى : على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق (وَ) على أن (نُنْشِئَكُمْ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم مثلها. يعنى أنا نقدر على الأمرين جميعا : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم.
ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل ، بفتحتين أى : على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها .. (١).
ثم لفت ـ سبحانه ـ أنظارهم إلى ما يعلمونه من حالهم فقال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ).
أى : والله لقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم ، حيث أوجدناكم من نطفة فعلقة فمضغة ... فهلا تذكرتم ذلك وعقلتموه ، وعرفتم أن من قدر على خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا .. قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى؟.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة إقامة الأدلة الساطعة ، على إمكانية البعث وعلى أن من قدر على خلق الإنسان مع العدم قادر على إعادته.
قال القرطبي : وفي الخبر : عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى. وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة ، وهو لا يسعى لدار القرار (٢).
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان الدليل الثاني على صحة البعث وإمكانيته. فقال ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).
والحرث : شق الأرض من أجل زراعتها ، والمراد به هنا : وضع البذر فيها بعد حرثها.
أى : أخبرونى عن البذور التي تلقون بها في الأرض بعد حرثها ، أأنتم الذين تنبتونها وتصيرونها زرعا بهيجا نضرا أم نحن الذين نفعل ذلك؟ لا شك أنا نحن الذين نصير هذه البذور زروعا ونباتا يانعا ، ولو نشاء لجعلنا هذا النبات (حُطاماً) أى مكسرا مهشما يابسا لا نفع فيه ، فظللتم بسبب ذلك (تَفَكَّهُونَ) أى : فصرتم بسبب ما أصاب زرعكم من هلاك ، تتعجبون مما أصابه ، وتتحسرون على ضياع أموالكم ، وتندمون على الجهد الذي بذلتموه من غير فائدة ..
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٦.
(٢) تفسير القرطبي ج ٤٧ ص ٢١٦.