ولقد التزم المسلمون بهذا الأدب في حياة النبي صلىاللهعليهوسلم وبعد مماته ، فقد سمع عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ رجلا يرفع صوته في المسجد النبوي : فقال له : من أين أنت ـ أيها الرجل ـ؟ فقال : من الطائف ، فقال له : لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضربا.
ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى ما فعله بعض الناس من رفع أصواتهم عند ندائهم للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ، أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقد ذكروا في سبب نزول هاتين الآيتين أن جماعة من بنى تميم أتوا إلى المدينة في عام الوفود في السنة التاسعة ، فوقفوا بالقرب من منزل النبي صلىاللهعليهوسلم في ساعة القيلولة وأخذوا يقولون : يا محمد اخرج إلينا .. فكره النبي صلىاللهعليهوسلم منهم ذلك.
والمراد بالحجرات : حجرات نسائه صلىاللهعليهوسلم جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة ، أى : المحددة بحدود لا يجوز تخطيها ، ويمنع الدخول فيها إلا بإذن.
أى : إن الذين ينادونك ـ أيها الرسول الكريم ـ (مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ).
أى : خلف حجرات أزواجك وخارجها ، أكثرهم لا يجرون على ما تقتضيه العقول السليمة ، والآداب القويمة من مراعاة الاحترام والتوقير لمن يخاطبونه من الناس ، فضلا عن أفضلهم ، وأشرفهم ، وذلك لأنهم من الأعراب الذين لم يحسنوا مخاطبة الناس ، لجفائهم وغلظ طباعهم.
وقال ـ سبحانه ـ (أَكْثَرُهُمْ) للإشعار بأن قلة منهم لم تشارك هذه الكثرة في هذا النداء الخارج عن حدود الأدب واللياقة.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وورود الآية على النمط الذي وردت عليه ، فيه ما لا يخفى على الناظر من إكبار للنبي صلىاللهعليهوسلم وإجلال لمقامه.
ومن ذلك : مجيئها على النظم سجل على الصائحين به السفه والجهل بسبب ما أقدموا عليه. ومن ذلك : التعبير بلفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ، والمرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي يظهر به موضع الاستنكار عليهم.
ومن ذلك : شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم ، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهوينا للخطب ، وتسلية له صلىاللهعليهوسلم (١).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٥٨.