بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة (١) : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم. أخرجه الترمذيّ. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّا أو يدفع بها ظلما. فأهدي بها إليه ، فقبل ، فهو سحت. فقيل له : يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلّا الأخذ على الحكم؟ فقال : الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).
(فَإِنْ جاؤُكَ) يعني اليهود لتحكم بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) لأنهم اتخذوك حكما (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحقّ بل ما يوافق أهواءهم ، أي : فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال : إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف : إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ). والتحقيق أنها محكمة ، والتخيير باق. وهو مرويّ عن الحسن والشعبيّ والنخعيّ والزهريّ ، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فيه التخيير. وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) فيه كيفية الحكم ، إذا حكم بينهم (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي : فلن يقدروا على الإضرار بك ، لأن الله تعالى عاصمك من الناس (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، أي : بالعدل الذي أمرت به ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : العادلين فيما ولوا وحكموا.
روى مسلم (٢) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٤٣)
__________________
(١) أخرجه الترمذي في : الأحكام ، ٩ ـ باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
(٢) أخرجه مسلم في : الإمارة ، حديث ١٨.