المسلمين ليتجنبوا أن يحيق بهم الأذى فلا ينكصوا ولا ينخذلوا ؛ وأصل الفتنة : الابتلاء والاختبار والامتحان ، تقول فتنت الفضة يعنى أدخلتها النار فتجلى حقيقتها ويبين جيدها من رديئها ، والقتال وإن كان شرّا إلا أنه قد يمنع الفتنة ويميز العدو من الصديق. ولا نهاية للقتال إلا أن يسود الدين ويكون لله ، أى عند ظهور الحق والحقيقة ، وينتهى الظالمون عن ظلمهم ، والغويّون عن غيّهم ، والضالون عن ضلالهم ، ويعود الحق إلى أصحابه ، وتردّ المظالم ، وإلا فالقتال مستمر وهم الظالمون ولا عدوان إلا عليهم ، وتسمى الآية ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء للعدوان ، لأن الظلم يتضمن العدوان ، فسمّى جزاء العدوان عدوانا ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤٠) (الشورى) ، والظالمون هم من بدأ القتال ، ومن أنزل الظلم واستحدث الفتنة والوقيعة.
* * *
١٥٧٤ ـ مشروعية المصالحة مع العدو عند الضرورة
فى الآية : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (٦١) (الأنفال) حضّ على موادعة يهود بنى قريظة وقبول الجزية منهم ، وفيها مشروعية المصالحة عموما مع العدو. والسلم : هو الصلح ، وجنحوا : مالوا ، ومعنى الشرط فى الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأصلح للمسلمين المصالحة أم الحرب ، فإذا كان المسلمون ظاهرين على أعدائهم وليست هناك مصلحة فى المصالحة فلا. والمصالحة معهم كانت استئلافا لليهود ، وطمعا فى دخولهم الإسلام ، أو كانت بالمال ، ويحتمل الاثنان. وموادعة أهل الحرب على مكاسب ومغانم أو جزية لا تجب إلا عن ضرورة ، ولا بأس فى الضرورة عن المصالحة على غير شىء سوى المصالحة ، لأن الحرب تشغل عن تنمية المجتمع المسلم ، وقد وقع ذلك فى صلح الحديبية. وإذا ضعف المسلمون عن قتال أعدائهم جازت لهم مهادنتهم على غير مكاسب ، مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو أو كثرة عتاده ، أو لظروف دولية ، وذلك من معانى الضرورات. ومهادنة الأعداء جائزة للسنة والسنتين والعشر سنوات. وقد هادن النبىّ صلىاللهعليهوسلم عيينة بن حصن الفزارى ، والحارث بن عوف المرى يوم الأحزاب على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة وينصرفا بما معهما من جنود غطفان ويخذلا قريشا. وكانت فعلته معهما مراوضة ـ أى مداراة ، ولم تكن عقدا. فلما رأى أنهما قد رضيا استشار سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فسألاه : أهذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شىء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال : «بل أمر أصنعه لكم ، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك